الأفلام لا تبنى على النوايا الطيبة، حقيقة كان يجب على مخرج ومؤلف فيلم “صيف تجريبي” محمود لطفي أن يدركها بشكل واضح قبل أن يبدأ العمل على فيلمه، فبين توقعات مرتفعة للغاية، وواقع مليء بالمشاكل الفنية سقط الفيلم ضحية سرد غير سلس، وفكرة غير واضحة، ومط في بعض الأحيان لملء الوقت، مع إهمال شديد على مستوى الحبكة والتجسيد.
الفيلم الذي يعرض في سينما زاوية بالقاهرة يتتبع رحلة “محمود وزينب” للبحث عن النسخة الأصلية من فيلم مختفي منذ الثمانينيات، ولا تتوفر عنه أي معلومة سوى “بوستر” يحمل صورة لفتاة ترتدي ملابس كلاسيكية، وطبقًا للرواية فإن جهة ما قامت باخفاء كافة النسخ الأصلية من الفيلم، بدون أسباب واضحة، في الوقت الذي سمحت فيه بوجود عشرات النسخ غير الأصلية من الفيلم نفسه.
عناصر ممتازة للغاية لبناء فيلم ممتع، وفكرة رئيسية يمكن التعويل عليها لخلق رحلة بحث حقيقية، ويمكن على هوامشها تمرير ما يريد صناع الفيلم تمريره من رسائل فنية بشكل سلس وواضح، غير أن انحيازات الفيلم جاءت مختلفة وغريبة، فاعتمد الفيلم على سرد مفكك ومرهق جدًا، كأنه يريد أن يقول للجمهور العادي لا نريدك.
وهنا نحن أمام أزمة عنيفة، فالفيلم الذي أراد توجيه التحية لصناع الأفلام المستقلة، وابراز المشاكل المرتبطة بهذه الأفلام، مع توجيه عتاب للجمهور الذي لا يشاهد هذا النوع المستقل، فعل ذلك بطريقة شديدة التعقيد، كأنه يمنح المشاهد سببًا إضافيًا لعدم المشاهدة.
وعلى ذلك فـ”صيف تجريبي” مدين لغيره من أفلام هذه الصناعة العظيمة باعتذار كبير، لأنه أضاع فرصة كانت مواتية للغاية لجذب الجمهور، وتوجيه الأنظار إلى صناعة السينما المستقلة بشكل عام، وأزمة الفيلم الكبرى أنه وضع نفسه في مواجهة مع السينما العادية، وأراد أن يكون مختلفًا بشكل كلي لمجرد الاختلاف، وتعامل مع الجمهور بتعالٍ وإهمال شديد.
فالخط الروائي الرئيسي الباحث عن النسخة الأصلية من الفيلم الثمانيناتي المستقل، والمختفي تمامًا، والذي لا يعرف عنه أحد شيء، يجده صدفة معروضًا في اليابان، وهكذا تنتهي رحلة البحث، “الفيلم كان تايه ولقوه”، هكذا بكل بساطة يغلق الخط الروائي بعد أكثر من 60 دقيقة من المشاهدة، والتتبع، “والسحلة” خلف التجريبية المفرطة، وطرق السرد الغريبة، وجدوا الفيلم بالصدفة، غير أنهم لم يتمكنوا في النهاية من عرضه، لضعف الإمكانيات.
الفيلم يريد أن يقول أن الأفلام المستقلة تختفي، ولا نستطيع عرضها، ولا نملك الإمكانيات، وإذا وجدناها فصدفة، وبشكل عبثي.
كلام جيد بكل تأكيد، لكنه عرض بطريقة مزعجة للغاية ومنفرة للغاية من السينما التجريبية، وفي وقت أطول كثيرًا مما يستحق، وكأن صناعة فيلم طويل هو هدف في حد ذاته، ومن ثم فاللجوء لهذه الألاعيب السردية العجيبة، ضرورة لزيادة زمن العرض، وكأن صناعة الفيلم وسرده بشكل جيد، وباهتمام بالتفاصيل، في زمن أقصر، جريمة أو رجس من عمل الشيطان.
وعلى غضبي الشديد من هذه الفرصة الضائعة والتي كان يمكن استغلالها بشكل أفضل، وبموازنة أكثر بين التجريب، والعناية بالجمهور، فإنه لا يمكنني التغاضي أبدًا عن الموهبة الإخراجية الواضحة لمحمود لطفي، الكادرات المميزة، واللغة البصرية الحية، والتصوير الأكثر من جيد، والذي يبشر بمخرج مميز يستطيع صناعة أفلام جيدة للغاية، لو أنه رفع يده عن السيناريو، ووزع الأدوار داخل فريقه بشكل يسمح بوجود عناصر أكثر اهتمامًا بالجمهور العادي، يكون هدفها إحداث عملية التوازن بين ما هو فني وما هو جماهيري.
الموسيقى التصويرية لشادي الحسيني جاءت أكثر من رائعة، وأدت أدوارًا مهمة للغاية، وأظهرت موهبة مميزة، لدرجة سؤال بعض مشاهدي الفيلم عن كيفية ايجاد التراكات الموسيقية بشكل منفصل.
على مستوى التجسيد فالتداخل بين الروائي والوثائقي في الفيلم، ومساحات التجريب الواسعة في السيناريو، وطريقة السرد، لم تعط مساحات للممثلين لاظهار قدرات تمثيلية كبيرة، وباستثناء طارق والي في ظهوره القصير، لم يخطف أحد الممثلين عيون المشاهدين بشكل خاص.
وجملة القول، أنه وبرغم عدم رضاي الكلي عن الفيلم، إلا أنه يبشر بمجموعة موهوبة -رغم الخلاف معها-، يمكن إذا كررت المحاولة بفلسفة مختلفة أن تصنع نجاحًا أكبر، وأن تفتح نافذة أوسع لهذه النوعية من الأفلام، وعليه فإن انتظار فيلمهم القادم، قد يحمل مفاجآت أفضل، أتمنى..