ما زلت أتذكر بوضوح اليوم الذي تم فيه قبول ابني بالمدرسة، كنت أقفز فرحًا – حرفياً – ومزهوة بالفخر وأنا أزف إليه الخبر السعيد، ولكني واثقة من أنه كان يستعجب من رد فعلي على شيء ليس له أهمية من وجهة نظره، لكن المدرسة محل التقديم تعد واحدة من أفضل وأعرق المدارس الخاصة في مصر إن لم تكن أفضلهم، والفرحة المبالغ فيها من وجهة نظر ابني الحبيب هو نتاج رحلة طويلة من التوتر والتعب بدأت باختيار الحضانة التي يذهب إليها وهو في الثانية من عمره. فكل قرار في هذه المرحلة له تبعات غير مضمونة، وكأنك تقامر معصوب الأعين أملاً أن يكون الحظ حليفك وتكون اختياراتك على صواب.
بعد هذه الخطوة التي تبدو بسيطة اكتشفت عالما آخر تعيشه الأمهات اللاتي يخططن لدخول أولادهن لتلك المدرسة أو ما شابهها. روتين يومي من الأنشطة ما بعد الحضانة ومدرسون “خصوصي” وكتب خاصة وألعاب خاصة وأحيانًا وجهات مختلفة للأجازات في سبيل خلق الجو المناسب للطفل لزيادة فرصه في القبول! لا أدري إن كان هذا هو الحال مع جميع المدارس الخاصة أم لا، ولكن حسب ما أسمع فالوضع لا يختلف كثيرا. ولكن في حالة ابني فإن المدرسة تطبق نظام اختبارات صعبًا وصارمًا ينتهي بقبول 20% فقط من المتقدمين لمرحلة رياض الأطفال!
قررت أن أنأى بنفسي عن كل ذلك وأضع ثقتي في قراري بشأن الحضانة وفي قدرات ابني. فبالتأكيد لن أستعين بمدرسين خصوصيين في هذا السن الصغير ولن أضع ابني وعائلتي تحت هذا النوع من الضغط العصبي من أجل شيء لا يمكن ضمانه فما الجدوى إذن؟ والحمد لله نجحت الخطة البسيطة وقُبل على بعد شهور من الانتظار الكفيل بتحطيم أعصاب أي أم وأب.
وقبل بدء العام الدراسي تم دعوتنا لاجتماع الأباء الأول لأصطدم بواقع جديد من القواعد شبه المستحيل تنفيذها: يجب على أطفالكم استخدام اللغة الاجنبية بصفة يومية.. ولكن يجب أن تتحدثوا معه بالعربية؛ إن لم يلتزموا بالسلوك المتوقع منهم فهم عرضي للفصل من المدرسة.. ولكن يجب أن تظهر شخصيتهم القوية “بس مش قوية أوي”؛ اقضوا معهم وقتًا كافيًا وقوموا بأنشطة خارج المنزل.. ولكن لا تتعدى الرياضات التي يلعبونها الرياضتين حتى لا يكونوا مرهقين؛ وتذكروا أن قبولهم في مرحلة رياض الأطفال لا تعني ضمان قبولهم في المرحلة الابتدائية، فلا بد أن يخضعوا لاختبار آخر قبل الانتقال بين المراحل الدراسية.
المختصر المفيد هو أننا لن نستقطع جزءًا كبيراً من دخل الأسرة لتوفير التعليم المنشود لابننا العزيز فحسب، بل سنبقى في هذا التوتر على مدى اثنى عشر عامًا المقبلين! وكأنما الضغط العصبي الناتج من قلقنا على تفوقه الدراسي وعلى حمايته مما يمكن أن يتعرض له خلال سنوات المراهقة ليس كافيًا! كل ذلك من أجل تخريج الطالب النموذجي من تلك المدرسة العريقة. ولكن كل هذا التوتر والتخطيط والنصح جعلني أفكر، وماذا بعد أن يتم قولبة الطفل ليصبح الطالب المثالي؟ بالطبع هو شيء عظيم ومرغوب، لكن ماذا لو كان الطفل ليس بمثاليًا؟ ماذا لو كان ليس بالتفوق الكافي في الرياضيات أو لا يهتم بالفن أو الرياضة أو العكس؟ هل تقوم أفضل الأنظمة التعليمية بأخذ ذلك في الحسبان أم أننا ندفع بأطفالنا باتجاه ما نراه نحن “الوصفة الصحيحة للشخصية المثالية”، والتي قد تكون أبعد ما يمكن عما هم عليه بالفعل؟ فنحن نتوقع منهم التفوق في جميع المواد المختلفة من الفيزياء للأدب للفن للرياضة، ونضعهم وأنفسنا تحت ضغط رهيب للحصول على أعلى الدرجات من أجل الوصول لتلك الصورة المثالية.
وحتى أولياء الأمور الذين لا يكترثوا كثيرا بموضوع الدرجات فإنهم يرضخون للضغط الاجتماعي المحيط بهم والذي يحتم عليهم الضغط بدورهم على أولادهم لتحقيق أفضل النتائج لتجنب حكم الناس عليهم وأثر تلك الدرجات على مستقبل الأولاد الأكاديمي. ولكن كل ما سبق مطلوب مع الحفاظ على التوازن في جميع نواحي حياة أطفالنا كما قيل في اجتماع مجلس الآباء.
لا أدعي أنني خبيرة تربوية أو تعليمية ولكن بناء على تجربتي الشخصية يمكننى التأكيد على أنه يمكن لطالب أن يكره حصة اللغة الفرنسية ويحصل على درجات متوسطة في الفيزياء، ولكن ينتهي به الأمر متفوقا في دراسته الجامعية وفي عمله بعد ذلك! أتفهم بالطبع أهمية التعليم الأساسي الذي يجب على أب انسان تلقيه ولكنني مؤمنة أن هناك بالتأكيد طريقة أفضل من ذلك دون تعريض أطفالنا لهذا الكم من الضغط العصبي من قبل المجتمع والمدرسة وأولياء الأمور على مدى سنوات، من المفترض أن تكون هي الأفضل والأكثر استمتاعا في حياتهم. فلماذا لا يكون هناك نظام تعليمي يمكنه تحديد نقاط القوة والمهارات المختلفة لدى الطالب في مرحلة مبكرة، وبالتالي يتم تخطيط سنواته التالية في المدرسة على هذا الأساس والتركيز على المواد التي يتميز فيها الطالب بحكم حبه لها.
أتمني في يوم من الأيام أن يستمتع الأطفال بالذهاب إلى المدرسة وبدراسة المواد التي يحبونها، وأن يعتبروها تجربة ممتعة وملهمة بدلا من كونها مرحلة إجبارية يجب عليهم تخطيها للوصول للمرحلة التالية في حياتهم. إن تحقق ذلك، فإنني على ثقة أننا سنشهد جيلا من المبدعين والمبتكرين لديهم شغف حقيقي بما يشتغلون به وأكثر نجاحًا من الطالب “المتوسط” الذي يصبح مواطنًا عاديًا لمجرد عدم حصوله على فرصة، أو مساحة كافية لاكتشاف قدراته وشغفه الحقيقي.