دعاء عبد الوهاب تكتب: لمُنيرة التي لا أعرفها

كانت دوماً إجابتي واحدة إذا سُئلت عن أجمل سنوات العمر “الأربع سنين ف كلية إعلام”

لازلت أذكر نقاشاتي مع والدتي بعد حصولي على الثانوية العامة بمجموعٍ كبير، ورغبتها في أن التحق بكلية الألسن جامعة عين شمس، فعلى حد قولها “دي مستقبلها أحسن”، ودفاعي المستميت عن رغبتي في دخول كلية الإعلام، جامعة القاهرة، وحبي لكل ما يتعلق بالفن و الأدب والشاشة الصغيرة.

تلك المناقشات التي كنت أختمها بالسبب الأكثر منطقية على الإطلاق

– عُمرك يا ماما شوفتي جامعة عين شمس في فيلم من الأفلام القديمة؟، جامعة يعني جامعة القاهرة، يعني سعاد حسني ف خلي بالك من زوزو، وهي قاعدة في المدرج وبتقول كلنا ولاد نعيمة ألماظية. يعني فاتن حمامة وهي بتستلم الجواب الأزرق في “الباب المفتوح”. يعني ثلاثي أضواء المسرح وهما بيغنوا “خدنا أجااازة خدنا أجااازة”. يعني نور الشريف في فيلم الحفيد وهو واقف جنب العربية الخضرا ببدلته البمبي المسخسخ مستني مرفت أمين تخلص امتحانها

جامعة يعني جامعة القاهرة

يعني القُبَّـة

يعني الساعة

بالطبع لم أكن أعلم وقتها أن كليتي الحبيبة هي آخر مبنى في الحرم الجامعي، وأنها ربما تكون أقرب لقارة استراليا الشقيقة منها لساعة جامعة القاهرة!

وأن السؤال الوجودي الذي سيطرح نفسه بشدة خلال الأسبوع الأول للدراسة “ليه منلمش من بعض و نشتري طفطف نروح بيه المشوار لحد القبة و نرجع؟”

ولكنني سرعان ما استوعبت الصدمة وتغلبت عليها

خاصة أن هذه الطبيعة الخاصة لمبنى كلية الإعلام وبُعدُه عن بقية كليات الجامعة، فقد كانت جارتنا الوحيدة هي كلية دار العلوم – ومكانش فيه بيننا و بينهم عمار – هذه الطبيعة جعلت من كليتنا عمارة لطيفة يعرف سكانها بعضهم البعض وتترابط بينهم العلاقات على اختلاف دفعاتهم و أقسامهم و سنوات تخرجهم.

واندمجت مع سكان كلية الإعلام واشتركت في كافة الأنشطة الطلابية من حفلات ورحلات وفريق مسرح

وكنت أميناً مساعداً لاتحاد طلاب كلية الإعلام في سنتي الدراسية الثالثة.

وتوِّجت سعادتي باشتراكي في أسرة النيل، إحدى أعرق وأهم الأسر في جامعة القاهرة تلك الفترة، فقد كانت مسئولة الأسرة العزيزة دكتورة ماجي الحلواني، زوجة الراحل العظيم الكابتن حماده إمام ووالدة الكابتن حازم إمام، وكنت أنا في ذلك الوقت “زملكاوية متعصبة.. جدا”، ولن أنسى ذلك النهار الصيفي اللطيف حين كنت أجلس مع بعض الصديقات على سلم الكلية، و سلم كلية إعلام هو بمثابة الشفرة التي لا يعرفها إلا إعلاميو جامعة القاهرة

ووجدتني أهتف فجأة

حازم إمام اللي جاي هناك ده!

* حازم إمام مين؟

قالتها ببساطة صديقتنا الوحيدة التي لا تهتم بكرة القدم ولا تعرف فيها “الليبرو من كوز الدرة”

أما باقي صديقاتي فكن رياضيات بامتياز

اثنتان من الأهلاويات الجميلات، ومشجعة متعصبة للدراويش، النادي الاسماعيلي.

وبما إنني كنت الزمالكاوية الوحيدة فقد تطوعت بكل براءة وبساطة لكي أقابل ضيفنا التائه على أبواب الكلية

– صباح الخير يا كابتن

إنت عايز دكتور ماجي؟

* صباح النور

أيوه لو سمحتي

– اتفضل معايا أنا هاوصلك لمكتبها

وصعدنا سوياً للدور الثاني حيث مكتب أستاذتي الغالية وأنا أتيه فخراً كمن حصل على الدوري والكأس في مباراةٍ واحدة.

لقد كانت حقاً أجمل سنوات العمر.. وربما كان ارتباطي بكلية الإعلام وبكل ما يمت لها بصلة هو ما جعلني أقبلُ طلب منيرة!!

كنت أتابع صفحتي على الفيس بوك حين وصلتني رسالة منيرة، عرفتني بنفسها

أنا منيرة، طالبة في السنة الأخيرة بكلية الإعلام جامعة القاهرة قسم صحافة، وبنعمل مجلة كمشروع تخرج

وعايزين حضرتك تكتبيلنا قصيدة جديدة ننشرها لأول مرة في مجلتنا.

لم تكن منيرة تحتاج لمزيد من الإقناع، فها هي الكلمة السحرية، “إعلام القاهرة”

فبعد سنواتٍ وسنوات من تخرجي من الجامعة وسفري خارج مصر، لا زال لهذه الكلمة مفعول السحر، وبرغم انشغالي الشديد في هذا الوقت، وبرغم أني بحسابات المبدعين “لم أكن في مود كتابة”، إلا أنني وافقت على الفور

ووعدتها بالانتهاء من القصيدة وإرسالها في أسرع وقت، وأرسلتُها في اليوم التالي.

“متخافش من بكره”

كان هذا هو العنوان الذي اخترته للقصيدة

اخترت أن أخاطب فيها هؤلاء الطلبة والطالبات الذين يوشكون على البدء في حياتهم العملية، وسيخطون أول خطوة تجاه مستقبل مجهول لم تتحدد ملامحه بعد. كتبت لهم في هذه القصيدة “كل اللي في نِفسي”، تذكرت نفسي وأصدقائي فيهم، تذكرت كل الأحلام والطموحات التي هزمها الواقع، وتذكرت كل المثابرة والمحاولات حتى النجاح والتميز.

متخافش من بكره
خاف بس من خوفك
خلي الحياة فكرة
وارسمها بحروفك
إفرش سماك ألوان
إعشق بكل جنان
إياك تكون ندمان
أو مَحني لظروفك

كل الجراح جواك
بالصبر تطرح ورد
خطاويك عيدان خضرا
ومسيرها يوم يشتد
دي الشمس مهما تغيب
يفضل شروقها نصيب
لو حتى كنت غريب
حضن القلوب يتمد

افتح بيبان الصمت
واصرخ بصوت مسموع
وإن زاد عليك الصعب
خلي الجبين مرفوع
افتح عينيك شبابيك
ضم الوجود بايديك
دا الفرح مستنيك
والحلم مش ممنوع

لم أكن أكتب قصيدة أو غنوة كما أفعل دائماً، كنت أشعر وكأنني أكتب لهم روشتة، وأدعو في سري “ياااارب يسمعوا كلامي”، وعندما تحولت هذه القصيدة للأغنية الشهيرة التي يغنيها فريق مسار إجباري، أصبحت من أحب أغنياتي إلى قلبي، فكم كانت سعادتي تزداد حين تصلني رسالة أو تعليق يخبرني صاحبها أن لهذه الأغنية ذكريات معه أو تأثير على مسار حياته، أو أن هذه الكلمات ساعدته على اجتياز أزمةٍ أو وقت صعب.

أذكر من ضمن هذه الرسائل، رسالة وصلتني من شاب صغير يخبرني أنه دخل كلية الهندسة بسبب هذه الأغنية؛ فهو كما أخبرني “كنت كل ما أزهق واتعب من المذاكرة في ثانوية عامة واسمع الاغنية دي أقول لنفسي استرجل واستحمل وكنت باكمل مذاكرة على طول”.

متخافش من بكره
غنوَتي التي أحبها
لمنيرة التي لا أعرفها
و لكل ذكريات كلية الإعلام جامعة القاهرة
“اللي مش بنشوف منها القُبة ولا بنسمع منها الساعة”