عندما تطالع عدد لا بأس به من الصحف المصرية أو المواقع الإخبارية التي لها اسم معروف وشهرة، تجد أخباراً لا تستطيع كقارىء تصنيفها تحت أي نوع هي، ثم بالتفكير قليلاً في محتوى تلك الأخبار تجد نفسك في حيرة من الأمر، وتتزاحم الأسئلة عن كاتبها ومحررها، كيف يفكر وهو يكتب مثل تلك النوعية من الأخبار؛ فأنا لا أجد لهم وصفاً يصلح لمهنتهم غير أنهم صحافيو الوهم، يكتبون الوهم ويروجون له.
ينتابنى فضول أن أدخل في حديث مطول مع أحدهم عما دفعه لكتابة مثل تلك الأخبار اللامنطقية واللامعقولة والتي لا تحتوي إلا على نوع من الوهم البليد؛ فهي لا يمكن تصنيفها تحت فن صناعة الوهم التي تنتهجه وسائل إعلامية كبرى مدفوعة بسياسات دول وراءها وتبتكر في صناعة الوهم وترويجه للجمهور المستهدف، ولديها بالمناسبة نخبة من المهرة والمبتكرين في ترويج تلك الصناعة، فهم ليسوا بالبلداء ولا الموهومين ولكنها مهنتهم التي يحترفونها. أما عنك -محرر وكاتب تلك النوعية من الأخبار الوهمية واللامنطقية- ما الذي يدفعك لتكتب عن طالب يخترع دواء للسرطان بخمسة جنيهات؟! وعن آخر اخترع قطارا أسرع من الصوت أو عن طالب اخترع الاختراع ذاته!! الغريب أن جميع أبطال قصص صحافي الوهم هم طلاب ثانوية فيما أدنى. يقتلني الفضول لسماع رأي أحد هؤلاء الصحفيين الذين يكتبون هذه البلادة؛ عن اعتقاده كيف لطالب ثانوي أن يخترع علاجا لمرض كالسرطان في غرفة نومه؟! لا معامل ولا أبحاث لا تجارب لا شيء غالباً غير الطالب ووهمه. أنت كصحفي إذا جاءك طالب وقال لك أنا مخترع، تشمر عن ذراعك وتأخذك المشاعر الجياشة تجاه ابن بلدك الذي سيخلص البشرية ويوفر علاجاً لمرضها الفتاك بـ 5 جنيهات! أخشى أن تتجه أخبارك يوماً إلى قتل الطالب بعد ملحمة أسطورية من الكفاح لأجل البشرية ولكن خبثاء البشر لا يريدون خيراً لبلادنا فخلصونا من طالب قصتك البليد ولكن بقيت أنت تقص علينا البلاهة في أزهى صور البلادة واللامعقولية.
تعدى الأمر مجرد أخطاء يقع فيها بعض الصحفيين، بل تكاد بعض مواقع الصحف لا تنفك تخلو يومياً من خبر كهذا. من أي مصدر يستقي مثل تلك النوعية من الصحفيين أخبارهم؟، هل يبحثون عنها أم يكفيهم أن يرسل طالب لهم عن اختراعه فينقلون عنه بدون تدقيق أو حتى بدون لحظة تفكير منطقي في المحتوى وتركيب الجملة التي تتحدث عن اختراعات كبرى تغير مسيرة البحث العلمي في العالم بدون أي امكانيات علمية؛ بل بعض تلك الاختراعات يبذل فيها المجتمع العلمي من المال والمجهود والبحث سنوات طويلة للوصول لنتائج. فأنت كصحفي، هل تعرف أنه وهم كاذب وتنقله لنا عمداً لأنك ترى في متابعينك وقرائك جهلة يحبذون هذا النوع من الوهم البليد؟، أما أنك واهم بليد مثل صاحب خبرك؟، أم أن الأمر كله أننا جميعاً موهومون بلداء، وما صحافي الوهم غير فسيفساء صغيرة في تلك الغمامة الكبرى التي تسمى الوهم.
هنا أتوقف قليلاً عن استنطاق صحافي هذه البلادة وأعرج على جمهورهم وكيف يتلقوا مثل تلك الأخبار والمعلومات، بل منهم متيقن من صحة تلك الأخبار كما هم على يقين من الأسير لدى مصر قائد الأسطول الخامس الأمريكي. فالأم التي تدفع بطفلتها على شاشة التلفزيون للحديث عن ذكائها الخارق لدرجة أن الأم استفزت المذيع والمشاهد بقدرات الطفلة الأقل من متواضعة، لهذه الدرجة وصل الوهم بنا؟ في الحقيقة تُهت في تلك السلسلة البليدة من الوهم والموهومين، ولا أعرف من أين تبدأ ولا عند من تنته ، كل ما أصبحت أعرفه أن الوهم يسكن عقولنا، وما صحافي الوهم غير ناقل له بدون أي ابتكار أو حرفية في صياغة الوهم لأنهم في النهاية يعودون لنفس تلك التركيبة العشوائية الوهمية البليدة؛ فهم ليسوا بالمحترفين ولا مهرة صناعة الوهم، ولا جزءاً من منظومة كبرى تحركهم نحو صناعة الموهومين بالأيدلوجيا أو القيم العليا أو عظمة السياسات الحاكمة للدولة، فلا شيء من هذا التخطيط ولا الذكاء.
نحن واهمون حقاً أم نهرب من واقعنا الرتيب عديم الخيال والأفق بالوهم؟ أم هو غباء شديد منا سطرته عقود من تعليم متدن وتنشئة بليدة؟ لكن بالتأكيد النتيجة واحدة؛ أننا مرضى الوهم البليد.