تابعت مثل غيري استفتاء الأكراد في إقليم كردستان العراقي آواخر الشهر الماضي والآراء المختلفة حوله وردود الأفعال المحلية والعالمية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. ولكن منذ ذلك الحين وأنا أسترجع ذكريات جميلة من العمل في قناة النيل الدولية وعاد بي الزمن إلى مساء يوم الأربعاء ١٥ ديسمبر ١٩٩٨ ليلة عملية ثعلب الصحراء التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة بسبب ما وصفته بعدم تعاون العراق مع مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
كنا نعمل تحت قيادات إعلامية عملاقة: الأستاذ حسن حامد والأستاذة سناء منصور؛ وكان نظام العمل مختلفاً، فالمذيعين يقومون بتحرير وقراءة النشرة أيضاً، ومع قرب انتهاء نوبة العمل كنت أقوم بتحرير نشرة منتصف الليل والواحدة صباحاً موعد انتهاء الإرسال حينذاك (إحساس مختلف تماماً حين تُنهي إرسال قناة بموجز لأهم الأنباء مع ابتسامة وتمنيات بقضاء ليلة سعيدة).
وقبل دقائق من منتصف هذه الليلة كنا نشاهد قناة CNN الأمريكية مترقبين تطورات الموقف ومستجدات الوضع في العراق مع انتهاء المهلة المحددة لبلاد ما بين الرافدين. وبما إنه لم يكن هناك جديد، قام المذيع الذي جاء دوره في قراءة النشرة -وكان صديقي المذيع اللامع في سماء قناة CBC Extra حالياً شادي شاش- قام بالتوجه إلى الأستوديو لقراءة نشرة منتصف الليل. ومع دقات منتصف الليل اشتعلت شاشة القناة الأمريكية بلهيب الحرب، وكانت المرة الأولى التي نشاهد فيها حرباً علي الهواء مباشرةً. واتصلت سريعاً بالأستوديو لكي يبلغوا شادي بالأمر وأني سوف ألحق به على الهواء ومعي المستجدات. وقامت قناة النيل الدولية بالبث الحي نقلاً عن CNN ليتم نقل أول حرب على الهواء مباشرةً عبر شاشة تلفزيونية مصرية.
في ذلك الوقت لم يكن أستوديو النيل الدولية مجهزاً لأكثر من مذيع على ديسك النشرة ولم يكن مجهزاً لتلقي الاتصالات على الهواء ولم يكن مجهزاً لتحديث النشرة فكنا نقرأ من الورق والنشرة محملة على ال auto quo ولا يمكن تعديلها. وقام فريق عمل الأستوديو بتجهيز كل ذلك في ١٠ دقائق؛ وعلى الرغم من أن العشر دقائق تعتبر دهراً من الزمن في تغطية حية إلا إنه كان إنجازاً غير مسبوق في تلك الليلة في تاريخ التلفزيون المصري كله.
كان المحررون يطبعون الأخبار من وكالات الأنباء ويعدون عدواً بين الطرقات ليصلوا سريعا إلى الأستوديو محملين بالمستجدات للمذيعين في الأستوديو. وكان الجاليري يعج بالأصوات والصراخ والهيستريا وفجأة دخلت الأستاذة سناء منصور، المعروفة بعصبيتها وحزمها في التعامل معنا ولكن أيضا بطيبة القلب وخفة الدم، صارخةً في أنا وشادي:” إنتوا سايبين ال CNN بتشتم في العراق وساكتين؟!!! ما طلعتوش تتكلموا ليه؟؟؟؟” وعبثاً حاولت إقناعها بأن الاستوديو لم يُجهز بعد، إلا أنها اقتحمت الجاليري ولا أدري ماذا قالت ولكن من الواضح من الزجاج أن الموضوع لم يكن في صالح طاقم الإخراج والهندسة.
وخلال دقائق كنا على الهواء أنا وشادي ننقل أول بث حي لحرب على التلفزيون المصري…….
وكان أمامنا عدة تليفون بيضاء عتيقة وبدأنا في تلقي الاتصالات على الهواء مباشرةً من مسؤولين ومحللين، وكانت الأستاذة سناء منصور تقوم بالاتصال بهم علماً أن الموبيل كان ما زال حديث العهد. ومضت الساعات، وقرب الساعة الثانية صباحاً أدركت أني تأخرت عن موعدي وإن أمي بالتأكيد ستقلق علي وخلال فاصل طويل اتصلت بها وأنا على ديسك النشرة من التليفون الأبيض أبو زراير إياه وكان حواراً فريداً. قالت أمي: “إيه اللي بتعمليه إنتي وشادي ده على الهواء؟. القناة الأولي بتذيع فيلم لصفية العمري وإنتوا بتذيعوا حرب؟؟؟ فقلت لها أنا حتأخر ومش عارفه إمتى حرجع ولازم أقفل حالاً. فقالت لي رحمة الله عليها: “يعني إيه؟ حترجعي لما الحرب تخلص ولا إيه؟؟ “يا ماما لازم أقفل إحنا على الهواء بعد ثواني” فختمت بقولها: “على فكرة إنتوا الاتنين عملين شغل جامد وشكلكم يشرف ومتمكنين من أدواتكم”.
وإذا بالمخرج وائل السيد يقتحم باب الأستوديو برجله صائحا: “مدام أولبريت مدام أولبريت مدام أولبريت” كان يقصد أن وزيرة الخارجية الأمريكية في ذلك الوقت مادلين أولبرايت ستلقي كلمة الآن على الهواء… وبهدوئه وخفة ظله المعتادة رد شادي قائلاً: “خليها تتفضل”.
وفي الساعة الرابعة والنصف من صباح يوم الخميس ١٦ ديسمبر ١٩٩٨ خرجنا من الأستوديو بعد أربع ساعات ونصف متصلة على الهواء، محملين بأول خبرة في نقل حرب على الهواء في التلفزيون المصري كله. كنا مرهقين ولكن داخلنا جرعة من الأدرنالين تكفي أن تُبقينا ساعات أخرى. وكانت الأستاذة سناء منصور أول من دخل الأستوديو بعد انتهاء الهواء وحضنتنا وقبلتنا لفترة طويلة قائلةً: “برافو يا حبايبي شرفتونا”.
لم نكن ندري وقتها أننا صنعنا إنجازاً وتاريخاً ولم نكن ندري بعدها كم الخبرة التي اكتسبناها في أربع ساعات ونصف (بصوت السادات عن حرب أكتوبر) بعد خروجنا من الأستوديو…
وبعد سنوات ما زال الإيفيه يذكر من الحين للآخر…. مدام أولبرايت مدام أولبرايت..