كما برع المصريون القدماء في التحنيط والأهرامات والثورات، برع المعاصرون منهم في العديد من الأمور المدهشة، على سبيل المثال لا الحصر برع المصري المعاصر في استحداث نظرية اجتماعية مصرية خالصة تنص على الآتي: (شعب + …..= طبعه)، فالشعب المصري في تلك النظرية يحل محل الصفر في الرياضيات، فحاصل ضرب أي رقم في الصفر في الرياضيات يعطيك الناتج صفرًا، وفي هذه المعادلة المستحدثة يكون ناتج أي صفة بجوار كلمة شعب يعطيك في النهاية الناتج “طبعه”.
كل ما عليك أن تضع الصفة أو إن شئت قُل “البلوة “التي تريد إلصاقها بالشعب وسيعطيك الناتج في النهاية “بطبعه”، بدءً من “شعب + متدين = طبعه” مرورًا بكل الأوصاف السيئة، ويخرج من تلك القاعدة أي صفات حميدة، فلو وضعت مثلا “شعب + متحضر.. ستخرج لك على الآلة كلمة اعتراضية لا داعِ لذكرها ولن يخرج لك الناتج أبدًا كلمة بطبعه!
بعد تلك الديباجة الضرورية للمقدمة لا أجد أي منطق يجعلني أُنكر أن سلوك المصريين أصبح علامة استفهام وتعجب وأكثر، لكن إلقاء التهم والصفات بشكل عشوائي يصيبني في مرارتي التي أوشكت على “الفرقعة”وتسطيح الأحداث والأسباب بدافع الحنق والغضب من السلوك دون تفكير طويل ودون أي محاولة استنتاج أو استدلال منطقي يشعرني بالغضب الشديد.
في وسط المشكلات المجتمعية التي تنفجر يوميًّا سواء السلوك العام على مواقع التواصل أو على أرض الواقع ستجد أسهل “إيفيه” أرعن يُلخّص الأزمة دون فكر “شعب متدين بطبعه”، وناهيك عن ضحالة الفكرة وعدم استنادها إلى أي منطق، وناهيك عن عدم وصولنا لمصدر كلمة “شعب متدين بطبعه” التي أصبحنا نتناقلها وكأننا نتحدث بسخرية عن شعب عدو، وناهيك عن أنها كلمة بالتأكيد لن يكون مصدرها كتاب سماوي أو حديث شريف أو حتى قول مأثور، فهو تعبير بسيط أراد به قائله خيرًا بالتأكيد لكن انتهى الأمر لكونه إيفيه لطمس أي فكرة جيدة عن سلوك الشعب في ظل حالة الزهامة والكآبة العامة على خلفية الأحداث السياسية والاقتصادية وبالتالي يكون “موت وخراب ديار”، فلا تقدم سياسي أو اقتصادي أو ثقافي وبالتبعية السلوك العام والشعب “فلاتي ومتحرش وبصباص” ونجلس نكتفي بمصمصة الشفايف.
ناهيك أيضًا عن أن المشكلات الاجتماعية موجودة منذ فجر التاريخ وليست وليدة هذا العصر لكننا لا نقرأ جيدًا، أو لا نقرأ من الأساس، آخر ما قرأت عن المشكلات الاجتماعية كان للممثل والفنان سليمان بك نجيب والذي ألف كتابًا رائعًا تحت اسم “مذكرات عربجي” وكان من ضمن المشكلات التي سردها استغلال بعض الشبان للمظاهرات إبان ثورة 1919 لمقابلة الفتيات ومغازلتهن في وسط الزحام والزخم الثوري!
ناهيك عن كل هذا سأسرد لك بعض الوقائع الشخصيّة :1. منذ ما يقارب العام ذهبت يومين للإسكندرية في نزهة سريعة، أغلب الأوقات كنت بالقرب من الكورنيش، الفتيات يرتدين تنورات قصيرة وملابس ضيقة أحيانًا، البعض منهن يقمن بالركض والأُخريات يذهبن بالدراجات، ولم أرى أو أسمع عن تحرش أو حتى معاكسة حدثت طوال اليومين!2. الشهر الماضي كنت في مرسى مطروح، ومكثت هناك عشرة أيام كاملة، في وسط الزحام ما بين الكورنيش والشواطيء المختلفة والسينمات لم أجد أي مشكلات من أي نوع ولا أي أحداث تُعكر الصفو!. سبتمبر الماضي والأعجب أن الواقعة في القاهرة “أسوأ مدينة في كوكب الفضيلة طبقًا لأحد التقارير المستوردة” الواقعة تعود ليوميات حفلات المحكى بالقلعة، كان على وجه التحديد يوم حضور الفنانة التونسية غالية بن علي وفؤاد ومنيب باند، الأعداد كانت غفيرة تُقدّر بالآلاف، والمسافات بين الناس كانت قريبة للغاية حد التلاحم أحيانًا ولم أرى حادثة تحرش واحدة، الأمور كانت ودية حتى أني تقاسمت مقعدًا واحدًا مع إحدى الفتيات تحت طلب وإلحاح منها بعد أن تركت لها مقعدي ما يزيد عن ساعتين!يومها حدثت مشكلات خاصة بالتنظيم وبعض الهرج والمرج والفهلوة لكنّي لم أُسجّل أي حالات تحرش ولم أسمع، وقد حضر العديد من الأشخاص الذين أعرفهم في أماكن متفرقة بالحفل ولم أسمع منهم أي أحاديث تخص هذا الشأن.
مباراة مصر الأخيرة والتي حضرها الآلاف من جميع الأعمار وكانت تحفة فنية خرجت للعالم وانفجر الجميع في الفرحة في مساحات متقاربة للغاية وانصرف الجميع بشكل أكثر من رائع ومتحضر!
من تلك الوقائع وغيرها أجد أن الشعب المصري يميل إلي التحضُر كلما سنحت الفرصة، كلما وجد بريق أمل، كلما كان بعيدًا عن الضغوط النفسيّة والمعاملة الغير آدمية.الاستنتاج الأخر أن المصريين الذين يقطنون المدن الساحلية “إسكندرية، مطروح، الغردقة، شرم الشيخ…”، يملكون الكثير من الهدوء والتمدن والرُقيّ وذلك يرجع لطبيعة الطقس المناسب وكذلك المساحات التي تسمح للناس بممارسة حياتهم بشكل طبيعي وبالتالي أكلشيه “متدين بطبعه” والسخرية المعتادة من كوننا همجيين ومتخلفين” غير منطقي.
كذلك المدن الجديدة التي أسكن أحد منها وأسير في شوارعها يوميًّا الأمور دائمًا على ما يرام نظرًا لنفس السبب “الحياة فيها آدمية إلى حد ما، أو إلى حدٍ كبير”، قبل أن أترك تلك الجزئية للمرة الأخيرة أذكر القاهرة مدينة “البللم والعو عو”، والتي كنت واحدًا من سكانها 22 عامًا من عمري وفي أحد أكثر مناطقها الشعبية، ولازلت اختلط بالمواصلات العامة فيها وفي مناطقها المكتظة بالسكان، الحقيقة أن حالات التحرش والاعتداءات فردية ولو زادت عن الفردية فهي بالطبع أقل بكثير من الجماعية وإلا فكيف تذهب كل يوم ملايين الفتيات إلي مدارسهن وجامعتهن وأعمالهن!
لاتنسى أبدًا أن سكان القاهرة يتحملون مالا يتحمله غيرهم، والضغوط كارثية والمساحات غير آدمية في المسكن والمواصلات، ومع هذا فالناس تروح وتجيء في كل يوم، لم ولن نصل أبدًا إلى مرحلة الهمجية الجماعية، لسنا ذئاب ولسنا متخلفين بالفطرة، بل العكس بالعكس، كلما أُتيحت ظروف شبه إنسانية ستجد بشر في قمة الروعة والتحضر “ثورة يناير، كأس الأمم الأفريقية 2006، تجمعات 30 يونيو،…”.
ولو عاش شعبًا آخر ما يعيشه المصري في يومه وعانى على مدار سنوات ظلم وكبت وقهر وضغوط قاسية من ثورات وفترات ترهل وإرهاب أسود وظروف اقتصادية مؤلمة وكارثية لكان وقع في اقتتال أو حرب أهلية، اهربوا من مستنزفين المشاعر والطاقات المزيفين للحقائق في أسواق نخاسة السوشيال ميديا من أجل ثمن بخس لايكات معدودة.. مصر جميلة!