اعتقد بأن كل إنسان لديه كتاب نائم في موضع ما من ذاكرته، ولو أنه فكر وراجع بطريقة جدية لعثر على موضوعه، ولو أنه عرف كيف يقترب منه، لوجد عنده بالفعل شيئاً يستحق أن ينشر، ويستحق أن يقبل الناس على قراءته، لأن كل تجربة إنسانية، قصة كاملة تستطيع أن تقدم نفسها في شكل كتاب.. هكذا قدم خالد عبد الهادي كتابه (علامات على طريق طويل.. هيكل.. لمحات إنسانية)، والصادر مؤخراً عن مركز الأهرام للترجمة والنشر، العبارة التي تصدرت استهلال الكتاب، هي إحدى أشهر مقولات الراحل الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل، وتستشعر حرج المثقف الفلسطيني خالد عبد الهادي، في اختياره لهذه العبارة بالذات لتتصدر كتابه الأول، وكأنه يعلم بحق أنه يفاجئنا بنفسه قبل أن يفاجئنا بكتابه، وقبله علاقته الوثيقة بهيكل رحمة الله عليه، والممتدة لما يقرب من عشرين عاماً حتى وفاته العام الماضي.
ولكن مفاجأة خالد عبد الهادي لا تقلل من قيمة كتابه على الإطلاق، خاصة وأن وراء الكاتب والكتاب شاهد عيان من أهم دراويش هيكل المقربين، الأديب الكبير الأستاذ يوسف القعيد، صاحب فكرة الكتاب كما أشار خالد في مقدمته.
وأهمية الكتاب في أنه يتناول عن قرب هيكل الإنسان، بعيداً عما اعتدناه معه في حياته من أوجه السياسة والصحافة والتاريخ، والمثيرة جميعها للجدل والاختلاف معه وحوله طوال رحلته الصحفية الطويلة، الاستثنائية شكلاً ومضموناً، ولم يقم الكاتب كتابه أو وثيقته التسجيلية إلا على أساس ما اعتبره هيكل طوال حياته عناصر نجاح المقال أو الكتاب أو التحليل السياسي الإخباري الناجح، ألا وهي المعلومات والتعليم والتسلية.
كان هيكل يرى أن غياب المعلومات يرتد بالكتابة، أياً كان صاحبها، إلى نوع من الإنشاء بجمل مرصوصة، أو الإنشاد مستعيرة فناً من فنون الشعر القديم في مدح القبيلة والإمام والخليفة وغيرهم، وطالما توافرت المعلومات، فإن التعليم يتحقق بما نستخلصه من استنتاج ننهي به ما اشتبه علينا قبل القراءة، وتتحقق التسلية حين تكون الكتابة بلغة صحفية رشيقة، تحمل من الحكي والقصص، ما يشد القارىء ويمتعه دون إسفاف، والجميل في خالد عبد الهادي اهتمامه بالتأكيد على أنه ليس مؤرخاً لحياة وسيرة الأستاذ هيكل، فمن شروط المؤرخ الحياد، وهو يقر ويعترف بانحيازه وتيممه بالرجل، ويرى أن ما قدمه هو فقط “معلقة إخلاص واعتزاز”.
أصف الكتاب بالوثيقة التسجيلية، لأنه بخلاف ما سرده من وقائع وشهادات موثقة، عن رؤى وأحداث ومواقف وحالات واهتمامات إنسانية في حياة هيكل، فإنه يعد بمثابة فهرس متكامل لرصيد الأستاذ الكبير المتفرد، والمتنوع ما بين المقالات والمحاضرات والكتب والحوارات الصحفية والحلقات التليفزيونية، وقد اجتهد خالد عبد الهادي بحق، ولخص هذا وذاك في اثنين وثلاثين فصلاً، زاد من قيمتها وبهجتها أن استعار عنوان كل منها من أشعار الشاعر والفيلسوف المتوهج أدونيس، بجانب واحدة من الأقوال المأثورة لعالم أو مفكر أو كاتب أو شاعر أو أديب، وسواء كان العنوان أو المقولة، تجدهما دائماً معبرين عن مضمون الفصل وشخص هيكل وسيرته في ذات الوقت.
قرأت الكتاب بشغف بمجرد صدوره، فأنا ممن ارتبطوا فكرياً ووجدانياً بهيكل وتجربته الإنسانية والمهنية، كان دائماً ما يتركني أفكر مع آخر كلمة أقرأها أو أسمعها له، وهو غاية ما أتمناه كمتلق من المفكرين والكتاب والمبدعين، وقياساً على عنوان الكتاب الفرعي، بريق بلا ظلال، أرى أن الأشد بريقاً في الكتاب، هو ما جاء به خالد عبد الهادي بشأن تسع كتب كان هيكل قد انتهى منها ولم تنشر بعد، وتتناول قصة حياة ناصر كاملة، ورؤية جديدة لأحوال العالم العربي، وزيارة جديدة للتاريخ، وسيرة عشرة ممن لعبوا أدواراً هامة في كواليس السياسة العربية، ورؤيته لملف الإسلام السياسي، وغيرها مما يعد عطاءً متجدداً لهيكل.
أما الظلال فلم تكن إلا ظلال خالد عبد الهادي، ومعه مركز الأهرام للترجمة والنشر بكل ثقله وتاريخه، وتتلخص في أخطاء اللغة العربية التي تملأ صفحات الكتاب، وهو ما لم يكن يليق بأي حال من الأحوال بشخص هيكل أو سيرة الرجل المهنية والإنسانية، فقد غاب التدقيق عن الكتاب رغم قيمته وأهميته وجهد البحث والتوثيق فيه، ولم يكن هيكل يهتم في حياته قدر اهتمامه بإتقان ما أحبه، وإلى درجة ألا يقل جهد المراجعة والتدقيق عن جهد الإبداع ذاته، ومن يعرف هيكل يعرف جيداً أن هذا الكتاب لم يكن ليرى النور على حالته اللغوية هذه، فقد تحكمت أهواء النشر للأسف على حساب الإتقان.