في عام 1999 قرر الأستاذ رؤوف توفيق رئيس تحرير “الصبوحة” في ذلك الوقت أن نودع القرن العشرين كما يليق بقرن شهدت مصر فيه والعالم أحداثًا جسام تأثيرها سيظل ممتدًا لقرون مقبلة. “مصر في مائة عام” كانت هذه هي الفكرة، ملف من 8 صفحات في كل عدد ولمدة زادت عن العامين يتم من خلال رصد تاريخ أبرز الظواهر والأحداث والمؤسسات والشخصيات المصرية خلال عشرة عقود.
نرشح لك: 10 معلومات عن الساخر الراحل محمد الرفاعي
تولى مسئولية الملف الأستاذ محمد الرفاعي. قبل هذه المهمة كان الرفاعي بالنسبة لنا الأستاذ الكبير الذي لا يخرج كثيرًا من غرفته، كان اسم الغرفة “قاعة نهاد جاد” وتضم معه الفنان الراحل رؤوف عياد الذي كان هو الآخر يأتي نادرًا للدور السابع في بناية روز اليوسف الشهيرة المطلة على شارع قصر العيني. كأبناء مخلصين لهذه المجلة حتى قبل أن ندخلها كنا نعرف قدر الرفاعي، صاحب المقال الصفحة “قضية فنية” الذي كان بمثابة “كرباجًا” ينزل به كل أسبوع على “نافوخ” من يراهم عديمي الموهبة في الوسط الفني المصري. التواصل معه كان قبل الملف من المهام الصعبة، تبادل التحية كان بمثابة إنجاز يجعل الصحفي الناشئ يشعر أنه أحرز هدفًا في مشواره مع صاحبة الجلالة. باختصار كانت “الصبوحة” في تلك الفترة تتمتع بأسماء كبيرة لها وزنها في الشارع الصحفي، وكان وجودنا فيها فرصة لكي نرى هؤلاء القامات عن قرب؛ ليتحول الملف إلى مدخل ولا أفضل لي ولباقي زملاء جيلي لنجد طريقا ممهدًا للتواصل مع الرفاعي.
من جانبه وجد فينا حماسًا ونشاطًا وقدرة على الإنتاج ودقة في البحث وأمانة في النقل والتحرير، ففتح لنا المجال وكنا نكتب في هذا الملف بحب شديد، ونهرب بخجل كلما تأخرنا على موعد التسليم. تحول الرفاعي إلى أخ أكبر، ظلت هيبته كما هي في قلوبنا لكن دخل إلى جوارها حب وتقدير لناقد وكاتب من طراز رفيع؛ لم يأخذ حقه من الشهرة خارج “الصبوحة”، ربما كان كبار هذه المجلة يشعرون أنهم ليسوا في حاجة للانتشار خارجها، اكتفوا بها وجاء لهم القراء والمريدين إلى أبواب مكاتبهم دون الحاجة لصناعة شبكة علاقات يلجأ لها ضعاف الموهبة تحت اسم انتشار وعلاقات عامة.
أذكر الآن كيف كان الرفاعي قلقا للغاية عند عرض مسلسل “البيضا” عن رواية يوسف إدريس الشهيرة، كانت أبرز تجاربه كسيناريست على الشاشة الصغيرة، كان يعلم أن “سكاكين النقاد” لن ترحمه فهو لم يرحم أحدًا، لكنه قدَّم بالفعل مسلسلًا عالي القيمة لكن لسوء التسويق لم يحصل العمل على حقه في المشاهدة، ولسوء الحظ لم ير مشروعه الأهم “بليغ حمدي” النور، ربما لم يستمر العمل المباشر مع الرفاعي بعد توقف ملف “مصر في مائة عام” لكنني كلما تذكرت ما كتبته عن المسرح والأزهر والسينما والمبدعين في القرن العشرين أستعيد ورق الملف الذي كان أصفر اللون والأستاذ صاحب الشعر الأبيض والقلب الأكثر بياضًا.
قبل أسبوعين تقريبا كنت في “الصبوحة” وكان في مكتبه حيث مقعده الأثير، سلمت عليه باليد ولاحظت أنه ليس في حالته المعتادة، لكن كالعادة وبسبب إيقاع المهنة الذي لا يهدأ لم أدرك -كما قال الشاعر مصطفى إبراهيم – أن هذه ربما تكون المرة الأخيرة؛ لو أدركت ربما فكرت في تقبيله أو احتضانه.. ” 100 100 كانت هتفرق في الوداع”.