كلما أحاطتني شوارعها وكلما إحتضنت ما تبقى فيها من أمل كلما وعدتها و طمأنت روحها الطاهرة رغم كل هذا العبث والضجيج، أُحدث شوارعها وكأنها صديقتي هكذا أرتاح أكثر، أهمس لها لا تحزنى سنصل معًا وسننكر التاريخ ونعطل الوقت ونعيد فهم القوانين ونحطم القوالب، تهمس هى بدورها لي بينما تحتضننى شوارعه: أنا لست هبة النيل، النيل يجري في تسع دول أخرى لم تتمكن أى منها من أن تصير مثلي، أنا ليس كمثلي وطن، تتردد كلماتها على مسامعى و تعود أصدائها مرات كثيرة “أنا لست هبة النيل”.
أمزح مع كل من يقابلني وأردد أن مصر في حقيقة الأمر هي هبة أينشتاين، فهي آلة الزمن الذى خبأها عن العالم، تسافر بك و تسافر فيك، يمكنك أن تختزل العالم فيها منذ سبعة آلاف سنة وحتى يومنا هذا، يمكنك أن تتجول منذ ذلك الحين عبر الزمن في شرايينها من سفح الهرم الأكبر بالجيزة عجيبة الدنيا القديمة الوحيدة الباقية مرورًا بمعابد ومقابر الأقصر الشاهدة على عظمة أجداد وهبوا مصر أرواحهم وفنهم وفكرهم وكل ما فاضت به نفوسهم من جمال وحرية.
ثم تأتى الإسكندرية وروعة تزاوج الفن المصرى القديم بالفن البطلمى ومن ثم الرومانى، ثم تطير بك وتحلق فترفع روحك إلى القاهرة الفاطمية تلك الساحرة الساهرة، والتى سرعان ما تتلألأ وكأنها تضئ لأجلك فقط، تأخذك من شارعها المعز إلى أزهرها إلى بهاء الخنقاوات والوكالات والمدارس، روعة العمارة التى تسحب الأنفاس فتتشكل المآذن وتحلق عبر الزمن هى الأخرى إلى أن تصل بك إلى جامع محمد على باشا، الذى لم يمنعه استبداداه من أن يحب مصر ويزينها ويحرص على أن تظل جميلة بهية.
ثم تطير بنا أجنحة آلة الزمن إلى القاهرة الخديوية وعمائرها التى ترفع لها جباهنا نشوة كلما مررنا بين شوارعها، ثم سرعان ما تلق بنا أجنحة آلة الزمن إلى برج القاهرة والذى يعود فيحيي عراقة الأجداد الذين قدسوا زهرة اللوتس وكأن القاهرة تنبثق من زهرة لوتس فتخرج لنا بصورة الوطن رغم كل ما ترتكبه الضوضاء والسيارات والتلوث من آثام فى حق تلك الساحرة، كل تلك المحطات وأكثر اعتادت أن تمر أمامنا كشريط يحملنا فوق أجنحة آلة الزمن التى نعيش فيها واعتادت أيضًا أن تخفف أوجاعنا كشريط لاصق لجراحنا، ليس على مصر المكوث فى الظل أبدًا فهى البهية التي تحمل بين طيات تاريخها المحفور فوق شوارعها كل تلك الطوابير المهولة من الأسرار والحكمة.