قبل أيام قليلة خرج علينا الكاتب الصحفي السعودي الجنسية الأردوغاني الهوى جمال خاشقجي ، عبر قناة BBC العربية، وأدلى بتصريحات مستفزة قال فيها إن الأزمة الخليجية ستنتهي إذا قام أمير قطر بزيارة القاهرة ومعه شيك بأربعة مليار دولار، بالإضافة إلى إيقاف هجوم الجزيرة المستمر على مصر.
بكل بساطة اختصر خاشقجي الأزمة في أربعة مليار دولار، ولا ندرى ما هو الأساس الذي بنى عليه افتراضاته لحل الأزمة بتلك البساطة، وكأن مصر تتسول الأموال وتبيع مواقفها لمن يدفع أكثر. طريقة تفكير خاشقجي تنم عن جهل شديد جدا بأبجديات السياسة المصرية وثوابتها، والتي لا يمكن تحت أي ظرف أن تتبدل مهما كانت شدة الإغراءات أو قوة التهديدات.
إذا عدنا بالتاريخ قليلا وتحديدًا في أواخر عام 2013، وفي الوقت الذي كانت تستعد فيه الولايات المتحدة لتوجيه ضربة عسكرية إلى سوريا من أجل اسقاط نظام الرئيس بشار الأسد بدعوى امتلاكه لأسلحة كيماوية، أيدت دول الخليج القرار وأبدت استعدادها للتعاون مع الولايات المتحدة في ذلك الأمر ،لكن وزير الدفاع المصري في ذلك الوقت، الفريق أول عبد الفتاح السيسي أعلن رفضه استخدام الأراضي المصرية لشن هجوم على دولة عربية هي سوريا، ورغم الدعم الهائل المعنوي والمادي المقدم من دول الخليج إلى مصر في ذلك الوقت بعد إسقاط نظام الإخوان، إلا أن السيسي رفض بكل شجاعة استخدام أرض مصر في ضرب دولة عربية شقيقة حتى لو كان الداعمون الرئيسيون لمصر بعد 30 يونيو 2013، يوافقون على تلك الضربة. من ثوابت السياسة المصرية التي يعلمها أي رجل دولة مخضرم أن سوريا هي بمثابة الإقليم الشمالي لمصر، يجب المحافظة على وحدته وقوة جيشه الذي يمثل حصن أمان لمصر في مواجهة العدو الإسرائيلي.
لو كان الأمر يتعلق بالأموال والشيكات والمنح لقبل السيسي بالأمر لأن دول الخليج هي من دعمته في تلك الفترة العصيبة، لكننا دولة لها ثوابت ومبادئ والتزامات يفرضها علينا التاريخ والموقع والمكانة تجاه أمتنا العربية.
مرة أخرى نعود بالتاريخ إلى عام 1990 وتحديدا بعد بدأ الغزو العراقي للكويت مباشرة بيوم واحد، التقى وزير الخارجية المصري في ذلك الوقت الدكتور عصمت عبد المجيد مع نظيره العراقي سعدون الحمادي ،أعرب الدكتور عبد المجيد عن أسفه لغزو الكويت وناشد نظيره العراقي إبلاغ القيادة العراقية في بغداد بضرورة وقف الغزو والانسحاب من الكويت فورا.
وبنفس عقلية الكاتب جمال خاشقجي، رد الوزير العراقي سعدون الحمادي قائلا: “مصر دولة تحتاج لكل الدعم الاقتصادي وهذا العمل العراقي لضم الكويت للعراق واستعادة الولاية المفقودة، لن يستهدف الخير فقط للعراق ولكننا لن نكون مثل أهل الكويت، نحن سنكون أكثر كرما في اتصالنا بالعالم العربي وبكم تحديدا في مصر، نحن نعرض على مصر أن نعطيها جزء من الأموال النفطية التي سيحصل عليها العراق من نفط الكويت”.
كان رد الدكتور عصمت عبد المجيد عنيفا جدا، رغم أن الرجل معروف عنه الهدوء الشديد، وقال لسعدون الحمادي: “هذا الكلام لا يجب أن يقال لوزير خارجية مصر فالموقف المصري لا يُشترى بأموال أو ثروات، نحن نرفض غزو العراق للكويت ويجب أن ينتهي الغزو فورا وعليكم أن تدركوا أن العالم لن يقبل بالوضع الراهن بدليل موقف مجلس الأمن الرافض للغزو والذي يطالب بانسحاب العراق من الأراضي الكويتية”.
استمر الوزير العراقي في موقفه الرافض للانسحاب من الكويت وقال إن من يفكر في التصدي لنا أو منعنا من ضم الكويت سيخسر الكثير وسنقطع يد من يحاول أن يأخذ الكويت منا، في إشارة واضحة للجيش المصري، فجاء رد الدكتور عبد المجيد فورا: “أخشى أن يد العراق هي التي سوف تُقطع “.
القصة السابقة رواها الدبلوماسي المصري أحمد أبو الغيط والذي كان أحد معاوني الدكتور عصمت عبد المجيد في ذلك الوقت، وكان حاضرا في تلك المقابلة بين الوزيرين العراقي والمصري. في الوقت الذي كانت مصر رافضة لغزو الكويت ورافضة لعرض العراق المغري بالحصول على العائدات نفط الكويت، كانت سبعة دول عربية مرحبة بالغزو. رفضت مصر ذهب المعز ولم تخش سيفه أو تهديداته، ولو كان الأمر يتعلق بالأموال فالعائدات النفطية ستفوق قيمتها مبلغ الأربعة مليار دولار التي تحدث عنها خاشقجي.
كان هم مصر الأول ولا يزال، هو وحدة وقوة أمتها العربية، لم يتصل الدكتور عصمت عبد المجيد بالرئيس مبارك ليطلعه على عرض العراق لأن ثوابت الدولة المصرية معروفة لكل رجال الدولة، وجاء رده سريعا برفض العرض العراقي المغري لأن المصلحة العربية تقتضي إيقاف التعدي على دول عربية شقيقة، وتقتضي أيضا التصدي للثور الهائج الذي كان يطمح في الاستيلاء على الخليج العربي بالكامل وصنع مملكته الخاصة.
هل قرأ جمال خاشقجي التاريخ المعاصر قبل أن يدلى بدلوه العفن في أزمة قطر مع الدول العربية؟.. المفترض أن كاتبا في عمر خاشقجي، يجب أن يكون مطلعا على الصحف وكتابات المؤرخين وتصريحات المسئولين في الثلاثين عاما الأخيرة، لأنها هي فترة عمله في مهنة الصحافة. ولأن لكل قاعدة استثناءات، فلنعتبر أن عقلية خاشقجي هي واحدة ضمن استثناءات قواعد العمل في الكتابة والصحافة، ولنتذكر دائما حينما نسمع تصريحاته المستفزة أن الرجل جاهل بالتاريخ المعاصر والجاهل لا يُلام.