منذ أن رزقت بابني الأول وأنا من أعتني به في كل جوانب حياته.. بغض النظر عن التكلفة المادية لم أقتنع أبداً بالاستعانة بمربية للمساعدة في الاعتناء به أو بأمور المنزل لأنني كنت –وما زلت- مؤمنة أنني أولى بمشاهدته يكبر ويتطور أمامي، ويحفر ذكرياته في ذهني بمواقفه المضحكة وأسئلته الملحة وابتسامته التي لا أستطيع مقاومتها، وطالما أنني لدي القدرة البدنية والذهنية الكافية فسيظل هو أول اهتماماتي، لأنه هو أولى بالاهتمام والجهد قبل أي أولويات أخرى. وبالرغم من الضغط العصبي والبدني الشديد مع المسؤوليات المتراكمة، تمكنت نوعا ما من المحافظة على ذلك التوازن المنشود بين زوجي وبيتي وابني وعملي.
نرشح لك – مها ناجي تكتب: أبطال العالم مش مصريين
ولكن جاء ابني الثاني بعد خمس سنوات ليقلب الموازين مجددا، ولم يعد هذا التوازن سهل التحقيق، فبالإضافة إلى تضاعف المسؤوليات المنزلية بشكل كبير، زادت مسؤوليات العمل وزاد عليهم التحاقي بمنحة لنيل درجة الماجستير، ليصبح يومي في حاجة إلى أربعة ساعات إضافية للأربع وعشرون ساعة حتى يمكنني إنجاز الأولويات والواجبات المختلفة. وطبعا لا حاجة لذكر أن الوقت المخصص للترفيه أو الهوايات أو أيا كان ما قد يفعله المرء في وقت فراغه قد انتهى بلا رجعى حتى الآن.
وفوق كل ذلك يأتي هذا الصوت الداخلي.. المزعج والمؤرق.. ليؤنبني على يومي.. ويحاسبني إن أعطيت كل ذي حق حقه من الاهتمام والحب والرعاية.. وإذا كانت تصرفاتي مناسبة للأم المثالية التي أطمح أن أكونها لأولادي.. كيف أصبحت بتلك العصبية؟ لماذا كل ها الصراخ والنهر؟ هل ناموا متأثرين مما قلت؟ هل سيظل هذا اليوم جزءًا من ذكرياتهم ليفسد طفولتهم؟ هل قضيت معهم وقت كافي؟.. يسألني ذلك الصوت المزعج برأسي تلك الأسئلة كل ليلة بعد أن يخلد الولدين إلى فراشهما.
نرشح لك – مها ناجي تكتب: من يوميات أنثي في شوارع مصر
ويغذي هذا الإحساس بالذنب ابني الكبير –وهو بمثابة صديقي المقرب قبل أن يكون ابني- حينما يقول لي من حين لآخر “أنا بكره الجامعة دي!” أو ” أنا مقعدتش مع حضرتك النهاردة خالص” ليكسر قلبي وجعلني أشكك في جدوى وأهمية أي شيء آخر أقوم به في حياتي إن كان على حساب أولادي.
ولذلك أصبحت حياتي في نهاية الأسبوع تتمحور حولهما فى محاولة للتعويض عن هذا الإحساس ولإسكات ذلك الضمير المذنب فتنقسم العطلة ما بين الذهاب للتمارين الرياضية وحديقة الأطفال وأعياد الميلاد وأماكن اللعب المختلفة المترامية على أطراف القاهرة.. في حين أن كل ما أتمنى عمله في هذين اليومين هو أن لا أفعل شيء على الإطلاق!.. أو يكون لدي حرية الاستلقاء أمام التليفزيون والنوم في أي وقت يحلو لي.
وما بين الضغط العصبي لتأدية كل التزاماتي على جميع الأصعدة، تمر أيام أشعر بها بأنني على حافة الانهيار، ويداهمني إحساس بالاستسلام كمن يحارب في مختلف الجبهات ويدرك ضرورة انسحابه كي لا يخسر على جميعها.
ولكنني إن تركت أولوياتي غير الأسرية سوف أكون تخليت عن جزء كبير من شخصيتي.. عن ما يثبت وجودي في “العالم الخارجي” خارج عالم البيت والأمومة، فعملي هو الشيء الأناني المتبقي لي، حيث تتاح لي الفرصة أن أشعر بوجودي وأهميته في مجال أحبه وأبرع فيه، وأن أشبع واحدة من الرغبات الأساسية في أي إنسان.. تحقيق الذات.
تؤكد لي صديقاتي من الأمهات المكافحات أن “الحال من بعضه” ويؤازرنني حينما أشعر بالفشل والعجز عن تحقيق التوازن المطلوب وهو ما يطمئنني بعض الشيء.
نرشح لك – مها ناجي تكتب: خواطر عن الثلاثينيات
ولكن ما يدفعني للاستمرار هو أشياء صغيرة.. تحتكرها الأمهات فقط.. الأسرار الطفولية واعترافات ما قبل النوم، والنظرات المحبة، والقبلات الصغيرة والأحضان المفاجئة حينما أكون في أشد الحاجة إليها.. ويقيني بأنني – على الأقل لعدة أعوام مقبلة – حبهم الأول والأكبر! كل هذه الأشياء هي ما تمكنني من استكمال يوم طويل من العمل المتواصل يبدأ في الخامسة والنصف صباحا وينتهي في الحادية عشر مساء وأنا مدركة -ومحتفظة بقواي العقلية- لتكراري لهذه “العملية” بمجرد أن أفتح عيناي في الصباح الباكر غدا وكل يوم.