جاءت الأيام الأخيرة بعاصفة شديدة من الاتهامات والاعترافات المتعلقة بقضايا التحرش الجنسي، لتجبر الجميع على إعادة التفكير وبلورة الأمور مرة أخرى لإدراك مفاهيم من المفترض أنها مُسلمات، مثل ماهية التحرش، مدى نبل الاعتراف كرد فعل على الاتهامات ومدى وضاعة الإنكار، هل القضية تتعلق فقط بالحقوق المهدرة للمرأة أم أنها مسألة تعدي على المساحة الشخصية لأي فرد؟ وما هي تلك المساحة؟
كمواطن عربي ومصري بشكل خاص ستقع كلمة تحرش على أذنك وقع الظاهرة المتفشية التي تراها في الشارع والمواصلات والمحلات والتيلفونات والمقاهي وصولاً لأماكن العمل وخلف الأبواب المغلقة، وتحليلها يحتاج إلى دراسة شاملة لأسباب ما يمكن تسميته بذلك الانفجار أو الانفلات الذي وضع مصر على رأس الدول الأكثر خطورة على المرأة، لكن أتى ما أطاح بأعلام الفن والسياسة حول العالم ليجمع مشكلات العالم الثالث والأول على طاولة واحدة، فيجمع بين وزير دفاع وفنان شهير ورجل الشارع المصري، وتأخذ القضية أبعادًا أخرى بجانب الأبعاد المتعلقة بالجنس بشكل مباشر كسبب للتعديات، مثل الاستغلال، الاستضعاف – سواء من القوي للضعيف أو من الضعيف لنفسه –، الغطرسة التي تودي بأصحابها إلى عشوائية التصرف، وأخيراً ثقافة الاعتراف والاعتذار.
فيما يلي يرصد إعلام دوت أورج أهم الحوادث المتعلقة بالتحرش الجنسي من مشاهير الفن أو رجال السياسة، والتي أثارت جدلًا كبيرًا حول العالم.
الشعلة الأولى .. الأوسكار تطرد أشهر منتجي هوليوود
في الثلث الأول من شهر أكتوبر، نشرت صحيفة نيويورك تايمز تحقيقًا تدين فيه المنتج هارفي واينستين وتتهمه بالتحرش وباغتصاب عدد كبير من الفنانات ومساومة المبتدئات على تقديم المساعدات لهن مقابل طلبات جنسية، لتتسبب الفضيحة في فصله من شركته الخاصة بقرار مجلس إدارتها، بالإضافة إلى طرده من الأكاديمية الأمريكية لفنون السينما وعلومها، التي تمنح جوائز الأوسكار.
قدم هارفي اعتذارًا فوريًا يقول فيه “أدرك أن الطريقة التي تعاملت بها في الماضي مع زملاء ألحقت الألم وأنا أعتذر عن ذلك صراحة”، وأضاف أنه ينوي التوجه للعمل على صفاته السيئة لذلك والإصلاح منها، بينما أعلنت محاميته أن بعض الاتهامات الموجهة لموكلها لا أساس لها من الصحة.
بعد تلك الحادثة اتهم عدد آخر من الممثلات هارفي بالتحرش مثل أنجلينا جولي وآشلي جاد، وعلى ضوئه أُطلق “هاشتاج” #MeeToo على مواقع التواصل الاجتماعي ومعناه “وأنا أيضاً”؛ ليجمع اعترافات وحكايات نساء العالم كله عن حوادث تحرش مروا بها.
“يكفي أن تكون رجلاً دون سن الثلاثين كي يشعر سبيسي بأنه حر في ملامستك”
لا تكمن أهمية حدث واينستين في كشفه وعقابه فقط بل تأتي الأهمية من كونها البداية التي منحت نساء العالم – ورجاله- الجرأة على الاعتراف بحوادث مماثلة مر عليها سنوات تصل إلى عقود، لنكتشف أن كل المجتمعات المنفتحة والمحافظة اجتمعت على أن هتك المساحة الخاصة شيء لا يُنسى، واستغلال سطوة الشهرة أو المال أو حتى كونك ذكر في مجتمع يرجح كفتهم شئ لا يُغتفر.
حكى الممثل أنتوني راب أنه تعرض للتحرش عام 1986 من قِبل الممثل الأمريكي الشهير كيفن سبيسي، بينما كان عمر راب 14 عامًا فقط، وجاء رد سبيسي عبر حسابه الشخصي على موقع التواصل “تويتر” موضحاً أنه لا يتذكر الحدث لكنه يعتذر بصدق إذا كان حقاً بدر منه ذلك التصرف، كما ألحق اعتذاره بالاعتراف بمثليته الجنسية، وعلى جانب آخر أوقفت شركة الإنتاج Netflix مسلسل “House of cards” الذي يقوم ببطولته كيفن.
لكن لم تكن تلك هي نهاية القصة بالنسبة للفنان الشهير، فقد فتح راب الباب أمام كل من يحمل قصة تتعلق بكيفن، حيث اتهمه الممثل المكيسكي روبرتو كافازوس أيضاً بالتحرش به، قائلاً: “يكفي أن تكون رجلاً دون سن الثلاثين كي يشعر سبيسي بأنه حر في ملامستك.. كان الأمر شائعًا لدرجة تحول إلى دعابة في ما بيننا”.
وكمن يستمدون الشجاعة باعترافات بعضهم، أطلق عدد من العاملين بمسلسل “هاوس اوف كاردز” تصريحات ضد كيفن تتهمه باستغلال مكان العمل للانتهاكات الجنسية سواء باللمس أو الألفاظ الفظة غير اللائقة، مما دفعه لإطلاق بيان آخر يوم الخميس 2 نوفمبر مشابه لبيان واينستين يعلن فيه أنه يسعى حالياً للعلاج وتقويم سلوكه.
“أمر مسلّ إلى حد ما” يطيح بوزير الدفاع البريطاني
من الفن إلى السياسة، تشابهت الأحداث وطالت رجال حكومة تيريزا ماي البريطانية، حيث تم فتح الملف إعلامياً ليضم أسماء العديد من الوزراء والنواب المتهمين بالتحرش بالنائبات أو بالموظفات، ويلمع في القائمة اسم وزير الدفاع مايكل فالون صاحب الثلاثة عقود من العمل السياسي، ليقوم برد فعل يتناسب مع سنوات الخبرة وهو الاعتذار السريع بتقديم استقالته من منصب وزير الدفاع والبقاء على مقعده كعضو برلمان يوم الأربعاء 1 نوفمبر معلِّقاً:
“ظهر العديد من المزاعم بخصوص أعضاء البرلمان في الأيام القليلة الماضية، بما في ذلك ما يتعلق منها بخصوص سلوكي السابق. كثير من هذه كانت كاذبة، لكنني أقبل أنني كنت في السابق دون المستوى المرتفع الذي نشترطه للقوات المسلحة التي نلت شرف تمثيلها”.
على جانب آخر، علقت المذيعة هارتلي بريور صاحبة الواقعة المتهم بها فالكون، وهي ملامسته ركبتها عدة مرات أثناء مقابلة بينهما عام 2002، بأنها ترفض اعتبارها من ضحابا التحرش حيث أنها كانت قادرة على إيقافه: “أخبرته بهدوء أنه إذا كرر هذا الأمر مرة أخرى، فسوف ألكمه في وجهه”، وفي سياق متصل تؤكد أنها لم تضخم الموضوع واعتبرت الأمر “مسل إلى حد ما”.
وكالنار في الهشيم انتشرت الاتهامات والتحقيقات وشملت وزير التجارة العالمية المدان بالتحرش بسكرتيرته، وأيضاً عدد من النواب، تم إيقاف أحدهم أمس الخميس وهو عضو حزب العمل البريطاني كالفن هوبكنز، بعد إعلان فتاة شابة أنه تحرش بها بإرسال رسالة فاحشة.
“بوش” الأب.. نكتة بذيئة واحدة للجميع
“وضع يده اليمني حولي من الخلف، وابتسمنا للصورة ثم سأل المجموعة، هل تريد أن تعرف من هو الساحر المفضل لي؟.. بينما كانت يده تغوص في جسدي قال إنه الساحر ديفيد كوب-آى-فيل”
حكت الممثلة جوردانا غرولنيك عن واقعة تحرش جورج بوش الأب البالغ من العمر 93 عاماً والذي يجلس على كرسي متحرك من خمس سنوات بها، ونشرت صورة على حسابها الشخصي على “انستجرام” تظهر فيها يده على جسمها من الخلف، ليتقدم المتحدث الرسمي باسمه باعتذار للمرة الثانية، بعد واقعة مشابهة شاركت بها الممثلة هيذر ليند على “هاشتاج” #MeeToo ، ليتضمن اعتذاره الثاني توجيه “لأي شخص أساء إليه” ويتابع:
“الرئيس بوش في سن 93 عامًا ويستخدم كرسي متحرك منذ خمس سنوات تقريبًا، لذلك يقع ذراعه على الجزء السفلي من جسم الأشخاص الذين يلتقط معهم صور.. وفي محاولة لتسهيل الأمور على الناس فهو يقول نفس النكتة بشكل مستمر، وفي بعض الأحيان يربت على مؤخرة النساء رغبة منه في أن يبدو ودودًا”.
داستن هوفمان.. آخر اعتذارات هوليوود
لا تختلف واقعة هوفمان كثيراً عن سابقاتها، فهي أيضاً ظهرت له بعد مرور أكتر من 30 عاماً، حيث اتهمته الكاتبة آنا جراهام هنتر بالتحرش بها لفظياً وباللمس في عام 1985 بينما كانت تعمل متدربة في إحدى الأفلام في سن المراهقة، وتقدم هوفمان باعتذار يوضح فيه أنه يحترم المرأة بشدة وأن ذلك التصرف لا يعبر عنه لكنه يعتذر إذا صدر منه ما أشعرها بعدم الراحة.
بشكل عام اجتمعت الوقائع كلها على أن وسائل التواصل الاجتماعي صنعت منصة للضعفاء وجبهة عالمية تشكل تهديد قوي على أنواع القوى المعروفة مثل السلطة والشهرة والمال، كما أنها تحمل إشارة لعصر قادم لا يأمن فيه أي إنسان لمكانته أو مهنته أو مدى تقدم الدولة التي يعيش بها، فربما التطور الإنساني الحقيقي قادم على ضوء تلك الأحداث.