لا أظن أن اتهامات بتشويه الواقع وتقديم صورة سلبية هي اتهامات يمكنها أن تصمد كثيرا عندما يتعلق الأمر بالفن، ولا كذلك مقارنة واقعية صلاح أبو سيف وكمال سليم بواقعية محمد خان وخيري بشارة، أو ما قدمته السينما من أفلام يتناول العشوائيات في السنوات الأخيرة مثل أفلام خالد يوسف وناصر عبد الرحمن، فلا يتوقع أحد أن الواقع الذي حاولت السينما الاقتراب منه قد بقى على حاله، أو أن حارة “الأسطى حسن مثلا” هي نفسها الأزقة أو العشش أو حتى بيوت المقابر التي تقدمها السينما في بعض أعمالها، وما كان واقعيا في أفلام صلاح أبو سيف سيكون دربا من الفانتازيا لو قدمته السينما اليوم، كما أن الكلاشيهات التي تمتلئ بها الأفلام القديمة التي تقدم صورة لامعة للفقر أو تنتهي بكلاشيهات : “إن السعادة ليست في الثروة”، و”ياست هانم أنا أغنى منك بشرفي” قد تحولت بالفعل إلى “إفيهات” في الأعمال الدرامية التي يقدمها الشباب.
العبرة هي قدرة العمل أن يجعلك تصدق أن ما تراه واقعيا حتى لو كان دربا من الخيال، بصرف النظر إذا كانت الكاميرا تتحرك في شوارع تعرفها ووسط وجوه مألوفة أو تبني لك واقعا من خلال أحدث برامج الجرافيك وتقدمه شخصيات من الكارتون، فهل نجح صانعوا فيلم أخضر يابس أن يجعلونا نصدق الواقع الذي قدموه؟
عندما قدم خيري بشارة فيلمه “يوم حلو ويوم مر”، وقدم محمد خان “أحلام هند وكاميليا” -على سبيل المثال- قدما بشرا يعيشون على الهامش، لهم تطلعاتهم وأحلامهم وتشوهاتهم التي يمكن أن تفهمها في سياق واقع قاسي يعيشون فيه، فتحبهم أو تكرههم، تتعاطف معهم أو تشعر بالحنق تجاههم، لكنك في كل الأحوال تشعر أنك جزء من حياة كاملة مليئة بالتفاصيل، بالأفراح وبالأحزان فتشعر أن ما تراه حقيقيا، وهو جزء مهم في لعبة الإيهام التي نتواطأ فيها كمشاهدين مع صناع الفيلم من لحظة إطفاء الأنوار في السينما.
في فيلم أخضر يابس يختزل محمد حماد معظم التفاصيل، ويعتمد على مشاهده في استكمال القصص الناقصة، فلا يروي تفاصيل تخلي الأعمام مثلا عن الفتاتين اليتمتين أو قصة الحب المجهضة الوحيدة التي عاشتها “إيمان” بطلة الفيلم، والتي لعبت دورها ببراعة هبة علي، و يستخدم الصمت بديلا عن الحوار ليصور حالة العزلة التي تعيشها الشقيقتان بعيدا عن بعضها رغم أن كل منهما هي ما تبقت للأخرى، فيكفي أن تفتح إيمان باب غرفة شقيقتها وتحاول أن تتواصل معها من خلال أسئلة روتينية لتجيبها الأخرى باقتضاب ودون أن تنظر إليها لنفهم أن كل منهما تعيش في عالمها.
المشاهد القليلة التي ظهر فيها الأعمام كانت كافية لإبراز تشوه حدث لهذه الطبقة حتى بات ما كان يعرف بالأصول والواجب بلا أي معنى، لكن وبرغم تفاصيل الشوارع والبيوت شديدة الواقعية، فإن شيئا بدا غائبا بحيث لا تستطيع أن تستسلم تماما وتسلم بواقعية ما تراه.
بدا الفيلم كما لو كان قصة قصيرة تحاول التنكر في صورة رواية، أو فيلما قصيرا يشبه واقعا آخر لا يمكنك أن تشاهده دون أن تشعر فيه بالغربة، فإذا كانت القصة القصيرة تقوم على الاختزال وتسمح أن تعبر عن لحظة أو حالة شعورية، فإننا نتوقع من الرواية بعض التفاصيل التي نفهم منها الدوافع والسياق. أن تكون الشخصيات لها ماض يفسر الحاضر ويجعلنا نفهم تصرفاتها، لا مجرد أنماط أو أفتارات، وهو ما اختزله تماما محمد حماد.
ففي الوقت الذي قدم رموزا واضحة كمفاتيح لفيلمه مثل الصبار الذي ترويه بطلة الفيلم التي كان عليها أن تتيبس أحلامها وهي بعد خضراء، أو السلحفاة التي تنقلب على ظهرها، وفي الوقت الذي قدم فيه تفاصيل صادمة بشكل مقصود في مشاهد الدورة الشهرية التي لم ينجح في رأيي أن يقدمها بشكل مرادف للخصوبة أو الخضرة كما يبدو من عنوان الفيلم وبدت أقرب لتلصص مراهق من خرم الباب، فإنه لم يقدم واقعا مقنعا أو محيطا لأبطاله، بحيث يبدو الفيلم أقرب إلى حلم أو كابوس بالأحرى أو مونولوج داخلي، لاشيء يقنعك أن فتاتين مثلا تعيشان بمفردهما في حي شعبي، لكنهما تماما وحيدتين، لا جارة ولا صديقة تظهر ولو في مشهد عابر ولو بدافع الفضول لتختفي تماما علاقة المكان والشوارع التي اهتمت الكاميرا باستعراضها في مشاهد طويلة، وتصبح غير ذات مغزى باستثناء أن تكون بروازا للفقر، حتى علاقات العمل التي تخل تماما من ابتسامة أو مجاملة في موضعها وبدا أن الشخصيات كانت قد قررت بشكل مسبق ما تقدمه والطريقة التي تعبر بها عنه، حتى نتقبل النهاية القاسية، مثل الآلهة في المآسي الإغريقية التي تخرج بمونولوج تشكل فيه مصير البطل التي تـشعر أن عليها أن تبرره.
لا أعرف لماذا شعرت أن مؤلف الفيلم كان أكثر صرامة مما ينبغي في التعامل مع شخصياته، فلم يترك لها ولو مساحة صغيرة لتتنفس، كما لو كان قد أراد أن يركب هذه المشاهد ليصل بهذه الشخصيات وبالمشاهد إلى نتيجة تشبه فيلما أراد أن يقدمه.