نقلًا عن المصري اليوم
طارق الشناوي
السؤال الذي يتكرر دائما في شارع (الحبيب بورقيبة) حيث تجرى الفعاليات الرئيسية لمهرجان قرطاج وبنفس الكلمات تقريبًا (بالحق ما أخبار الفنانة شادية)؟ والسؤال يأتي مصحوبًا بدعوة تنطقها العيون قبل الشفاه (أن يحفظها الله).
اعتزلت شادية الفن قبل أكثر من 30 عاما، أى أن الأجيال الجديدة لم تعاصرها فى عز مجدها الفني، ولكن شادية حفرت في أعماق الشعوب العربية مساحة من الحب تخترق حاجز الزمن وسنوات الغياب ومسافات الجغرافيا، يكفي أنها ظلت تحترم فنها بعد الحجاب والابتعاد ولم تقل أبدا سامحوني عن هذا المشهد أو اغفروا لي تلك الأغنية، شادية منذ أمس الأول وهى تحتل الاسم رقم واحد فى العالم العربي، عندما يدرك رجل الشارع من لهجتى أننى مصري يأتي السؤال عن شادية وتتكرر إجابتى (الحمد لله شادية بخير) الذي يعبر حقيقة عن مشاعرى تجاه فنانة كبيرة ندعو لها دائما بالصحة والعافية وطول العمر.
الشعب التونسي مزاجه الفني راق ومتحضر وأصيل، وكثيرا ما تجد أغانينا القديمة لها مساحة فى الشارع تشعرني أحيانا أنها تتجاوز مساحتها فى الشارع المصري.
في مهرجان قرطاج بدأت الرحلة مساء السبت بفيلم للمخرج الفلسطينى الكبير والمعروف رشيد مشهراوى، عنوان موح يطرح أسئلة (الكتابة على الثلج)، كما أنك فى وسط الدمار والنيران اللذين تجرى داخلهما أحداث الفيلم من خلال خمسة أشخاص داخل منزل فى غزة، تُصبح الفرصة مهيأة لكى نتابع جميعا الصلف والعدوانية الإسرائيلية التى لا تراعى حتى أبجديات الحياة، عنوان ترى فيه أنه الوجه الآخر للنيران لتأتى الكتابة على الثلج لتؤكد أن كل شىء سيمحى بعد قليل.
نحنّ إلى الثلج لكى يعيد التوازن إلينا ونأتى إلى الفيلم الذى يعانق فى تفاصيله القضية الفلسطينية والخلافات الفلسطينية الفلسطينية والعربية الفلسطينية وأيضا العالمية الفلسطينية، ثلاث دوائر تتحرك فيها القضية، تتشابك أحيانا وتتعارض دائما، فلسطين هى جُرح مزمن فى ضمير كل إنسان عربى بل فى ضمير الإنسانية، مع مرور الأيام لا ننكر أن هناك من يحمل الإنسان الفلسطينى كل الذنب ومن يعتبر أن الحمل هو المسؤول عن توحش الذئب، ولدينا فى الحقيقة مرجعيات تتصارع فى توجهاتها وتفتح الباب أمام كل التأويلات.
فى غزة يبدأ الفيلم بانفجار ونرى مسعفة تؤدى دورها يمنى مروان من لبنان والضحية ملقى على الأرض بينما نتابع رجلا يقف على أبواب العقد الخامس من عمره، عمرو واكد، يساعد فى حمل المصاب، ويصبح أمام الجميع فرصة وحيدة للنجاة من استمرار تدفق النيران، وهى أن يدخلوا مباشرة إلى بيت فلسطينى يقطنه زوج هو الفنان السورى غسان مسعود وزوجة هى عرين عمرى وهى فنانة فلسطينية بينما والجميع داخل البيت تتباين المشارب، الرجل العجوز صاحب البيت يُمسك بساعة حائط يحاول دون جدوى إصلاحها، بينما الوقت يمر والفيلم يريد أن يؤكد أن الزمن أيضا يمر من خلال تلك الساعة العصية على الإصلاح، حتى بعد أن ينهى غسان عمله ويضبطها قبل أن يعلقها على الحائط تهتز يده وتتحطم على الأرض، القضية الفلسطينية اقتربت من 70 عاما لتصبح مأساة شعب يدفع ثمن صراعات عالمية وعربية ووطنية.
فى المشهد الأخير تتحطم عربة الإسعاف التى تأتى مجددا على أثر القصف الإسرائيلى، حيث كان المنوط بها إنقاذ جريح واحد من الموت لنكتشف أنهما صارا اثنين والباقى معرضون لنفس المصير.
داخل المنزل نرى شخصية عمرو واكد المتعددة فى مدلولها الرمزى فهو مفروض فلسطينى ولكن تفلت منه بين الحين والآخر كلمات باللهجة المصرية، ولا أدرى كيف لم يتم ضبط اللهجة حتى لا تفتح الباب أمام بعد آخر للشخصية، لا أراها مقصودة لا سياسيا ولا نفسيا.
فهو يعبر عن تلك الشخصية التى مع الأسف صارت تُشكل النسبة الكبرى لهؤلاء الذين يتمسكون بالدين بمعناه الشكلى، فهو مسلم يؤدى الفروض بل يرى أنه أحق باستخدام الماء فى الوضوء رغم عدم توفره وحاجة الآخرين إليه.
يفرض سطوته على الجميع من خلال مسدسه الذى منحه الإحساس بالتفوق على الآخرين حتى أصحاب البيت، كما أن مرجعيته الدينية منحته إحساسا كاذبا بأنه فقط يمتلك الحقيقة والصواب، ويفرض على المسعفة أن تغطى جسدها وشعرها كل ذلك تحت شعار المرجعية الدينية، الفكرة على المستوى النظرى والإيحاء المجازى مسيطران على المخرج رشيد مشهراوى تماما وهو يحاول أن يجد لهما معادلا سينمائيا يتمثل فى البيت الفلسطينى الفقير والجدران التى هزمتها السنون ورسمت تجاعيد الزمن عليها كل التفاصيل، كل شىء يأتى مباشرا حتى عندما تدمر إسرائيل عربة الإسعاف للمرة الثانية ونجد قبلها أن المسعفة حرصت على أن تحاول إنقاذ عمرو واكد من الموت بالتنفس الصناعى والشاب الجريح والمفروض أن حالته الصحية تزداد تدهورا إلا أنه ينهض ويحاول إنقاذ عمرو واكد الذى كان أساسا يتشكك فى توجهه وكأنه عميل.
السؤال الأخير هو: متى تأتى عربة الإسعاف التى ستنقذ الوطن من الموت؟ وتأتى إجابة غسان مسعود: (لسه).
إنه الزمن الذى يتحرك ويمضى للأمام بينما نحن نتوقف عند لحظة ولا ندرى التوقيت وتلك هى القضية التى حاصرت أبطالنا الخمسة فى تلك المساحة الضيقة، وهو رهان صعب جدا أمام المخرج يبدأ من كتابة السيناريو الذى كان يبدو فى الكثير من الأحيان، لديه مأزق المساحة الزمنية، وهو لا يجد ما يقدمه خلالها زمن الفيلم نحو 75 دقيقة، فاضطر لكى يعيد تقديم الفكرة الواحدة بأكثر من حكاية درامية وهذا هو الطريق السريع للملل. المخرج لم يمتلك الخيال القادر على التحليق دراميا وإخراجيا، كما أنه حريص على أن يراهن مباشرة على الفكرة التى يحملها الفيلم وهى احترام الاختلاف لأن الهدف فى نهاية المطاف هو تحرير الأرض وإقامة دولة كاملة السيادة، وأن الوسائل قد تتعدد ولكن علينا استيعاب تلك التناقضات.
رشيد هو أكثر مخرج فى الثلاثين عاما الأخيرة قدم فلسطين فى أفلامه الروائية والتسجيلية وكانت البداية بـ«حتى إشعار آخر» الذى حصل وقتها على الهرم الذهبى فى مهرجان القاهرة فهو يحمل دائما هم الوطن سواء كانت إقامته فى غزة أو رام الله إلا أنه ولا أدرى لماذا كان مباشرا هذه المرة فجاء الفيلم فاقدا الجمال الإبداعى وبلا إيحاء فنى ليصبح مجرد «كتابة على الثلج»!!.