طفل سيما.. قصة قصيرة لـ محمد حسن

أنا شاب في منتصف العشرينات، لكنّي أصغر وأبسط من ذلك بكثير، بيني وبين عمري علاقة عكسية، كلما ازدادت سنوات هذا العُمر كلما ازدت طفولة، فأصبحت أشعر بخوف شديدٍ يوم ميلادي كل عام، أخاف أن أتقدم في السن وبعد عشرين عامًا من الآن أسير بالحفاضة في الشارع مثل الأطفال الرّضّع!
 
الغريب أنّي وقور الشكل، أُحافظ على كلاسيكيتي المعهودة، أٌقوم بتثبيت شعري وتهذيبه بشكلٍ مُستمر، أحلق ذقني، وأقوم بكي ملابسي يوميًّا وتلميع حذائي الأسمر، وإصلاح رابطة عُنقي بين الحين والآخر، الأمر الذي يجعلني مادة فعالة لسخرية أصدقائي ويزدني اعتزازًا بنفسي لحد بعيد.
 
تخرجت من كُلية الآداب قسم الفلسفة بتقدير جيد ومكثت بالبيت عامًا كاملاً أمارس تلك الفلسفة على أُسرتي بشكلٍ ناجح وبمعارك كلامية يشهد لها القاصي والدان بالتميز الشديد ودمغ الحُجج ودحض الأباطيل، لكنّي خلال عام كامل أيضًا خرجت بحقيقة أو نظرية واحدة جمعت فيها عصارة أفكاري وحروبي الكلامية وهي أن الفلسفة لن تطعمني خبزًا جافًا، وبعد إلحاح قبلت بالعمل كفرد أمن في أحد السينمات في وسط المدينة بصحبة أحد أقاربي.
 
في البداية كان الأمرُ مضحكًا لي ولأصدقائي ولكل من حولي، بين شامت ومتعجب ومتأفف، على غرار أني صمت وفطرت على بصلة، ومرت الأيام الأولى من الاستغراب والدهشة لكنها بدت بعد ذلك مهنة لطيفة، كان الانخراط وسط البشر شيئًا جيدًا لي طول الوقت، أقف على باب الدخول، ابتسم للقادمين ببشاشة، أصافح الأطفال يدًا بيد ولو سنحت لي الفرصة كنت أُقبّل أيديهم أو رؤوسهم، لا عجب في ذلك فأنا واحد منهم، من بني جلدتهم حتى ولو بدا لهم وللناس عكس ذلك، حتى لو رموني بألف “عمو” وألف “حضرتك” لا توجد قوة على الأرض تخرجني من بينكم أو تضع حاجزًا بيننا.
 
أحد المرات كُنا في يوم عيد الربيع والزحام على أشده، قامت فتاة صغيرة بجذبي نحوها وطبعت قبلة رقيقة على خدي، وقتها شعرت أن “براشوط” قام بسحب جسدي من على الأرض، شعُرت بخجل وملأ الاحمرار وجهي حتى ضحكت شقيقتها الكُبرى التي كانت تصحبها، قرأت من عينها نظرة كسطر مكتوب مكون من كلمتين “أنت طفل أبله “، فرددت النظرة بسطر آخر مبتسم “على الرحب والسعة”!
 
كانت علاقتي جيدة بزملائي جميعًا، وكنت أسرح في وجوه الخلق مأخوذًا بتفاصيل تلك الوجوه، كثيرًا ما ابتسمت لي فتيات إثر نظرة مني تفحصت وجوههن الوردية البديعة، لكنّي أُشبه الطبيب في مشفاه أو الكاهن في محرابه حتى لو لم أُقسم بقسم الأمانة والولاء، لكنّي أحبُ الابتسام، أُحب أن أرد التحية بمثلها أو بأحسن منها، في أحد الأيام جاءت فتاة كانت تحضر إلى السينما بانتظام، يبدو عليها من طبقة الأرستقراط، جميلة ناصعة البياض ووجهها مُشع وشعرها شرس حال اقترابك منه، يلسعك مثل ضوء الشمس، كانت تألف وجهي وأنا أحفظ ملامحها عن ظهر قلب، هلت كما يهل العيد على طفلٍ وحيد، كان وجهها وشعرها يمثلان العيد وبهجته وألعابه الجميلة، شعرها وحده كان يمثل الألعاب النارية والمفرقعات التي لم أمسها مثل باقي الأطفال لكنّي لم أُخف إعجابي ببهجتها وصوتها خطورتها أيضًا!
في هذا اليوم اقتربت مني قليلاً قبل موعد الحفل بدقائق وطلبت رقمي هكذا دون مقدمات، اقتربت وقتها كثيرًا حتى شممت عطرها الفريد وأسلاك شعرها المجعد همس في وجهي وكدت احترق، وقتها لم يتورد وجهي خجلاً بل كاد يشيط أو يحترق لكنّ الله سلّم
قالت : أريد رقمك حتى…
لم أدعها تُكمل: حاضر، وبدأت اُلقنها الرقم بخجل، وقبل أن تنصرف قالت: بالمناسبة أنت طفل، لكنك طفل جميل جدًا!
لم أدر وقتها ماذا أقول أو أفعل، فكرت أن ألعن طفولتي الفاضحة لأول مرة، لكنها لم تقدحني بل كانت تمدحني، لقد قالتها بابتسامة فاتنة!
 
هذا هو عيبي الدائم متردد، أفكر أكثر من اللازم حتى يطفح التفكير فيصيب فرحتي الطفولية البسيطة، لم أرى أحدًا يشبه وظيفته مثلي، وظيفتي هي حياتي، حياتي باب كبير، لا أمنع أحدًا من الدخول وحين يخرج تكون الرواية قد انتهت بالكامل وليس هناك وقت لفعل شيء آخر، لازلت أفرح نفس الفرحة الطفولية، ولازلت أبكي حين أفقد الناس والأشياء، أشعر أني بذاكرة سمكية، سعة المساحة الداخلية للخبرات صفر!
أفرح نفس الفرح مع كل ابتسامة وكل كلمة حلوة وكل نظرة حتى لو وراءها حية تسعى!، وحتى لو أعلم أنها تسعى أفرح أيضًا!، وأحزن بنفس التطابق، ما هذا بحق السماء!
 
أليست تقال هكذا في ترجمات الأفلام الأجنبية!، حار عقلي في التفسير حتى أصابه ما أصابه من التفكير، أهذا جنون أم عقل أم ظنون أم فن أم شجون؟، ذهول أم طفولة متأخرة تطفح كما يطفح الجديري المائي فيعزلك في غرفتك الضيقة عن العالم الكبير! لكن قلبي لم يحتار أبدًا فهو الذي يحدثكم عني الآن بينما أستعد أنا بالخارج للعرض القادم!
 
“ينتهي الفيلم بموسيقى كلاسيكية هادئة مع نزول الأسماء على الشاشة وسط تصفيق الجمهور بشدة”