لا يتعامل الشعب التونسي مع أيام قرطاج السينمائية، باعتبارها موعدا خاص بالسينمائيين وحدهم، إنها شأن يخص أهل المدينة جميعا، ينظر إليها التونسيون كتاريخ سنوي للحج نحو قاعات السينما، حيث يتنفس الجميع إكسير”جي سي سي”، وهي العبارة التي تتردد من مطار قرطاج الدولي، وصولا إلى ساحة لحبيب بورقيبة، تلك العبارة تحمل اختصار عنوان المهرجان باللغة الفرنسية “أيام قرطاج السينمائية”.
منذ اليوم الأول للمهرجان نكتشف حجم التفاف الشعب التونسي حول أيام قرطاج، الأعداد تتجاوز حدود المعقول و التحضيرات مهمة الجميع، هذه السنة قام أصحاب المتاجر على ممر قاعة “سينما الكوليزه” بإغلاق أبوابا محلاتهم لمدة يوم كامل من أجل السماح للبساط الأحمر بالمرور و تزين الطريق بشعار المهرجان، دكاكين و مقاهي و مطاعم و حتى مداخل عمارات كانت تحت تصرف المهرجان يوم الافتتاح، كما أن خارطة حركة السيارات وسط المدينة تم تغييرها لضمان أعلى مستوى من التنظيم و حسن الإستقبال لضيوف قرطاج.
عبر التجول في شوارع تونس، يبدوا المشهد كأنه عرسٌ حقيقي، فالظروف التي تعيشها تونس،رفعت من مستوى التضامن و الدعم لـ”أيام قرطاج السينمائي” لقد أصبح المهرجان قضية الجميع، و بات على الكل المساهمة في إنجاح هذه الدورة. لهذا تشبه التحضيرات حالة الطوارئ التي تدفع بالجميع للتحرك وفقط نظام واحد يضمن تقديم صورة جميلة لتونس عبر القنوات الفضائيات العربية والعالمية التي حجت إلى تونس من أجل تغطية المهرجان.
لقد نجحت أيام قرطاج في تغيير وجه العاصمة التونسية، ما زاد من حماس المنظمين ورفع من مستوى طموحاتهم للتوجه إلى المدن المجاورة بتنظيم عروض سينمائية وكسر حواجز السجون لتنظيم عروض سينمائية للمساجين.
هذه السنة خرج المهرجان إلى الشارع، وامتداد البساط الأحمر على طول شارع لحبيب بورقيبة، ووقف مئات “التوانسة”، لتحية ضيوف قرطاج،في مشهد يعكس مدى تعلق هذا الشعب الجميل، بالفن و تقديره للمبدعين، كانت الفرحة عارمة كأنه عرسٌ تونسي يزف الفنان العربي و الأفريقي و الأوروبي إلى قاعة سينما “الكوليزه”التي تزينت بأبهى حلة، بالأضواء و شعار المهرجان، لقد حظى حفل الافتتاح بجو صحو، لا أمطار ولا رياح ، وكانت السماء صافية سعيدة بعودة هذا المهرجان في حلة جديدة و تحت إدارة جديدة يقودها المدير المنتج نجيب عياد، وفريق شاب سواعده اليمني كل من المخرج الشاب أمين بوخريص والإعلامية المتفانية في العمل كريمة وصلاتي، وعشرات الشاب من المتطوعين الذين يؤدون مهمتهم بتفاني ومثابرة وإتقاق.
تملك أيام قرطاج سحرا أخر يختلف عن باقي المهرجانات العربية، فكلمة وزير الثقافة التونسي محمد زين العابدين، كانت أخر كلمة يتم تقدميها قبل عرض فيلم الافتتاح”كتابة على الثلج”، حيث صعد الوزير أخيرا، بعد أن سبقته كل الفقرات من عروض راقصة و تقديم للأفلام المشاركة و كلمة مدير المهرجان، ولم يبقى إلا عرض فيلم الافتتاح، فقد كان من المهم أن لا يشعر الجمهور بالتعب في هذا الحفل الذي تتقاطع فيه الكثير من البرتوكلات و المراسيم من البساط الأحمر إلى الكلمات الرسمية وتقديم البرنامج ومشاهدة الفيلم، ما يعني أن إختيار فيلم متوسط المدة هو أمر ضروري،و هو ما توفر في فيلم “كتابة على الثلج”الذي جاء في حدود 90 دقيقة فقط، فمهمة فيلم الأول أن ينصف المهرجان منذ البداية، فلو كان طويلا و ممل يسبب شرخا في المزاج العام و نكهة المهرجان.
نرشح لك – صور من افتتاح مهرجان أيام قرطاج السنيمائية
تعتز أيام قرطاج كثيرا بالجمهور، فهم إكسير حياة المهرجان على مدار ثمانية وعشرين دورة، متواصلة منذ خمسون عاما، فأحلام الراحل طاهر شريعة مؤسس المهرجان، لم تدفن، وقد وجدت ألاف التونسيين الذين يؤمنون بها، وهو ما تعكسه درجة الإقبال على الأفلام التي تفوق كل التوقيعات، فالأيام هي فعلا موسم الحج إلى السينما، لها طقوسها وعادتها ومراسيمها التي لا يحيد عنها أحد، لهذا لم يكن من الغريب أن يعلن مدير المهرجان نجيب عياد في حفل الإفتتاح أن ستون ألف تذكرة، تم بيعها إلكترونيا قبل أسبوع من انطلاق المهرجان لمشاهدة 180 فيلما معروضا هذه السنة، ولا يشارك الجمهور في تحية الضيوف على البساط الأحمر،بل يحظ العشرات منهم من يحظون بفرصة المشاركة في دخول القاعة.
لا شئ يتعب التونسيون في رحلة عشقهم للسينما، لا المطر الذي حل ضيفا على أيام قرطاج في اليوم الأول للعرض، ولا الطوابير الطويلة من البشر الممتدة منذ الساعات الأولى للنهار حتى أخر العروض التي تقدم في حدود الساعة العاشرة ليلا، المشهد لا يتكرر إلا مرة واحدة في العام من 4 إلى 11 نوفمبر، حيث يتيم الكل بالسينما و سحرها، و تجد الشباب و النساء و الرجال بعد أن اقتنوا تذاكرهم قبل ساعتين على الأقل من عرض الفيلم، سعدان بالأجواء التي تعين الروح لقاعات السينما.
تتميز الأيام عن باقي المهرجانات العربية، التي تصنع البهرجة من خلال التعامل مع شركات أجنبية فرنسية و أمريكية، في كون كل شئ في قرطاج تونسي، فالفكرة في قرطاج تونسية و التنفيذ تونسي من أبسط عامل حتى اكبر عضو في لجنة التنظيم،و الكل يتكلم لهجة واحدة هي “حب تونس”.