طارق الشناوي عن السينما السورية: الرقم الصعب في المهرجانات العربية

نقلًا عن المصري اليوم
كان الجمهور التونسى فى قاعة (الكوليزى)، التى تُقام فيها العروض الرسمية للمهرجان، متعاطفا مع الفيلم السورى (مطر حمص) للمخرج جود سعيد، بين الحين والآخر تستمع إلى تصفيق يعبر عن الانحياز للشاشة، وهو ما يمنح الشريط السينمائى قوته، ولكن يجب ألا نعتبر أن هذا التأييد للشاشة يعنى فى أعماقه تأييدا للنظام السورى، الطبيعة الإنسانية تقاوم الخراب ولكنها لا تدافع أبدا عن نظام قائم. الفيلم يتعرض لدمار مدينة حمص، وهو نموذج للدمار الحادث فى أغلب المدن السورية، إنه الصراع من أجل الحياة التى يريد اغتيالها أعداء الحياة، صفقة للهدنة لإخراج العالقين فى تلك المدينة مقابل تقديم الغذاء والماء للجميع، بينما الجماعات المسلحة، التى تتدثر عنوة بالدين، ترفض ذلك، هم يريدون فقط قتل الحياة. كان المخرج حريصا على أن يدعم فيلمه بعزف عود وصوت يغنى عددا من أغنيات الحب، لأم كلثوم وميادة، وقدم برؤية فانتازيا العود وكأنه هو أيضا يعانى، حيث وُضعت عليه ضمادات، ولكنه فى النهاية لا يزال يغنى ويضحك، وبين الحين والآخر ستجد مشهدا كوميديا يتسلل إليك للتأكيد على أن المقاومة الحقيقية هى فى الإقبال على الحياة.
 
قسّم المخرج فيلمه إلى مقاطع مطر الجنون ومطر القلب، ومطر الأمل ومطر السواد، لم يقدم «جود» فيلمه بتلك المسحة المباشرة التى تجدها لدى المخرجين السوريين المعبرين بأفلامهم عن النظام مثل باسل الخطيب وعبداللطيف عبدالحميد فى تأييدهما المباشر لـ«بشار»، ولكنه يزرع ذلك الإحساس فى ثنايا الفيلم، الذى يراهن على أن المتلقى أيا ما كان توجهه السياسى يرفض الدمار والدماء، وسوف يتعاطف مع مَن يريد الحفاظ على الحياة، ولا يعنيه التوقف أمام اللون والجنس والدين، لهذا يشير فى البداية إلى أن الأحداث خيالية حتى تُتاح له إمكانية الحركة دراميا بعيدا عن قيود الواقع، إنهم بتلك الأفلام يقدمون الفصل قبل الأخير من المأساة السورية، وهو الدمار، ولكن الفصل الأول يقول إن الديكتاتورية هى التى أدت بنا إلى الجحيم، لا أحد يريد إعادة القراءة.
 
الأفلام التى تقدمها مؤسسة السينما التابعة للدولة لا تتوقف كثيرا أمام سبب غضب الشارع، فهى تدين الغضب على أساس أنه الذى أدى فى نهاية الأمر للدمار.
 
رغم أن الثورة كانت سلمية وترفع شعار الحرية، قبل أن تُلطخ بالدماء ويقفز عليها (الدواعش) وغيرهم، فيصبح الوطن فى خطر والهوية على المحك، فلا يجد الناس سوى السلطة، التى كانوا يطالبون بإسقاطها، لتصبح هى طوق النجاة لإنقاذهم من المصير المؤلم الذى ينتظرهم جميعا، ولكن هل نطمس الحقيقة، هل ننسى أن هؤلاء الحكام كانوا أعداء للحرية، وأنهم صادروا العدالة، فكان لابد أن يثور الشعب؟. إيقاع تغير المواقف السياسية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين لم يعد يثير دهشة أحد، ومن فرط تكراره، بات هو القاعدة وليس أبدا الاستثناء، فى النهاية فإن المصالح كما هو معروف تتصالح فى دنيا السياسة، وهى أيضا كذلك فى الفن والثقافة.
 
لا يمكن لأحد أن ينكر أن هناك غضبا عارما فى الشارع سببه الإحباط الشديد تجاه توابع ثورات الربيع العربى، مع اختلاف الدرجة بين كل دولة وأخرى، وصف الربيع بالخريف صار لصيقا به، وكأن الاسم الرسمى الآن هو (ثورات الخريف العربى الربيع سابقا).
 
دعونا نعُد بضع سنوات للخلف دُر منذ 2011، لنرى كيف كانت الدنيا وكيف كانت اختيارات كل المهرجانات الكبرى فور اندلاع ثورات الربيع العربى فى الوقوف إلى جانب الشعوب فى تطلعها للحرية، وهكذا أيضا اختار أغلب المهرجانات العربية أن يقف مع الثوار، كان المهرجان الأول الذى شارك فى تحديد ذلك هو (كان)، الذى عُقد فى مايو 2011، واستقبل من كل الدول العربية الأفلام التى تناصر الثورة مثل مصر وتونس وليبيا، وأقام لها احتفاليات خاصة مثل الفيلم المصرى (18 يوم)، وهو عبارة عن عشرة مقاطع سينمائية، أفلام روائية قصيرة قدمها 10 مخرجين، ثم تكتشف أن صُناعه- أو بتحديد أدق- أغلبهم غير مُرحِّبين بعرضه، والأمر ليست له أدنى علاقة بالرقابة المصرية كما كانوا يرددون فى الماضى، ولكنهم قرأوا الشارع الذى يحدد جزء لا يُستهان به علاقته بالثورة من خلال موقف الجنيه من الدولار، قبل الثورة كان الخمسة بدولار، بعدها ارتفع الأمر الآن ليصل إلى أكثر من 17، وعلى هذا الأساس تم حسم الأمر، من الممكن أن يقيسها السورى بمعدلات الدمار على أرضه وبعدد الملايين من المهاجرين واللاجئين السوريين الذين يتواجدون فى العديد من الدول من أجل ضمان فقط الحياة مجرد الحياة، ويكفر هو أيضا بالثورة.
 
تعيش كل ثورات الربيع العربى فى إحباط، تقزمت الأحلام، بل صار بعضها كوابيس، لكن فى نهاية الأمر هناك خط فاصل وبون شاسع بين أن تنتقد الكثير مما يجرى على أرض الواقع الآن، أو تنتقل إلى الجانب الآخر، رافضا الثورة وسنين الثورة. كل المهرجانات العربية كانت قد حسمت الموقف فى البداية لصالح الأفلام الداعمة للثورة، والفنانون المؤيدون للثورة كانوا كثيرا ما يُستعان بهم فى لجان التحكيم والندوات، ولم نجد ترحيبا بأفلام النظام، فى سوريا تحديدا كان هذا الموقف من الممكن ملاحظته ومتابعته عن كثب، لأن مؤسسة السينما وفى عز الأزمة لم تتوقف عن إنتاج الأفلام الداعمة لموقف الدولة الرسمى، على الجانب الآخر كانت هناك أفلام ينتجها القطاع الخاص تناصر الثورة وبعضها تم تقديمها بعيون أجنبية.
 
المهرجانات العربية فى القسط الوافر منها حددت فى البداية موقفها المؤيد للثورة، فهل هى انعكاس لرأى الدولة الرسمى أم هو رأى المثقفين؟ كان أول الأفلام التى وقفت مع النظام السورى «العاشق» لعبداللطيف عبدالحميد، وهو واحد من أهم مخرجى السينما السورية، والذى حصد العديد من الجوائز فى أفلام مثل «صعود المطر» و«رسائل شفهية» و«ما يطلبه المستمعون»، ثم تحفته السينمائية «نسيم الروح»، وجاء «العاشق» فى أعقاب الثورة، وبعد أن أعلن مهرجان القاهرة عن قبوله فى المسابقة الدولية، بل أرسل الدعوة إلى المخرج تراجع، وهو ما تكرر فى أكثر من مهرجان عربى آخر. الآن مثلا مهرجان القاهرة سيعرض فى مسابقته العربية هذه الدورة، وهو ما سبقه إليه مهرجان الإسكندرية فى دوراته الثلاث الأخيرة، العديد من الأفلام المعبرة عن الرأى الرسمى للنظام السورى، وباتت أفلام عبداللطيف عبدالحميد وجود سعيد وباسل الخطيب وغيرهم هى المطلوبة الآن، لأن الرأى الرسمى للدولة المصرية بات يحمل هذا الاتجاه!!.