نوران عاطف
“أنا طيب زي كمال أبو رية ومحمود الجندي”..
ظهر الفنان غسان مطر في أحد مشاهد فيلم “لا تراجع ولا استسلام” ليلخص مسيرة نوع من الفنانين مثل كمال أبو رية ومحمود الجندي ويذكرنا بجمال إسماعيل، عبدالوارث عسر، حسن مصطفى، وحسين رياض -في أغلب أدواره. فنانون لا غبار على إمكانياتهم وقدراتهم التمثيلية على تقمص أنواع مختلفة من الأدوار؛ لكن ملامحهم وأصواتهم وطريقة أدائهم أهلتهم دائما لدور -حتى وإن اختلفت تفاصيله وتركيبته النفسية- يمكن وصفه بـ “الطيب” أو “اللي مننا وعلينا”.
يستأنف غسان “لكن المخرجين حصروني في أدوار الشر”، في خلطة الدراما المصرية المعروفة – والتي ربما ظلمت قدرات بعض الممثلين بتكرار المزيج المضمون جماهيرياً- يقدم القائمون على العمل الخير والشر والمعركة وقصة الحب؛ يبرز “الطيب” في شخصية الأب أو الأخ أو الصديق الوفي وربما الخادم أو بواب العمارة صاحب النخوة والجدعنة والمشاعر الرقيقة. أصحاب تلك الوجوه أحبتهم أدوارهم وأصرت على استمرارهم فيها فظلوا بمرور عمرهم الفني هي مساحتهم المفضلة للتواصل مع المشاهد الذي ألفهم واطمئن بوجودهم ليبشره بالنهاية السعيدة.
في سلسلة موضوعات “الطيبون على الشاشة” يرصد إعلام دوت أورج سيرة أبرز تلك الوجوه.
سينما “أبو المطامير”
“الليلة الليلة وكل ليلة على مسرح الأندلس، إمبراطور البرابرة وأميرة الفكاهة، حمامة العطار، 7 صاغ درجة أولى، 5 صاغ درجة تانية، ويوجد مكان للعائلات”..
هكذا كانت البداية، من نداء “حمامة العطار” بطل العروض الفكاهية والتمثيلية في الأفراح، والذي جذب محمود الجندي طفلاً للعالم السحري الذي تجتمع فيه الألحان والتمثيل والفكاهة، بعد أن غرزت فيه والدته حب الغناء والموسيقى، ووالده الذي كان أول من أدخل آلة العرض السينمائي لـ “أبو المطامير” بمدينة دمنهور محافظة البحيرة مسقط رأس محمود، الذي ولد في 24 فبراير 1945.
حكى الجندي في حوار له مع الإعلامية منى الشاذلي في برنامجها “معكم” الذي يعرض على قناة cbc، أن والده كان محبا للفن، وعندما جاءه ابن شقيقته المقيم في القاهرة ليسأل عن “سينما” نصحه بالذهاب إلى دمنهور أو كفر الدوار؛ ومن هنا ظهرت فكرة إقامة مكان للعرض السينمائي بالقرب من إحدى الطواحين بالبلدة حتى يستمد منها الكهرباء، لكن المشروع باء بالفشل في أقل من سنة، لأن الجميع أهل وأصحاب، ومعظم من يذهب للمشاهدة تربطه صلة ما بأصحاب المشروع ولا يصح أن يدفع تذكرة للدخول.
الفنان القدير
محمود الجندي الفتى خفيف دم، صاحب الملامح المصرية الهادئة والأداء الغنائي المبهج المريح، حتى إذا لم تعتبره مطربا في المقام الأول، لكنه أثبت جدارة كاستعراضي ماهر يبرع في الرقص والغناء، وكممثل فكاهي ودرامي، سواء خلال شبابه في أفلام مثل: اللعب مع الكبار، شمس الزناتي، التوت والنبوت، الطوفان، حكايات الغريب، مدام شلاطة، والشرس؛ أو في مرحلة أخرى من حياته في أدوار مثل فيلم: واحد من الناس، خارج عن القانون، وليلة البيبي دول.
برز أداؤه الكوميدي والاستعراضي في مسرحيات مثل: باللو، وعشان خاطر عيونك، والبرنسيسة. ويستمر حضوره اللطيف والمتميز في أفلام شبابية مثل: الحرب العالمية الثالثة، كلب بلدي، هروب اضطراري، وعلى جنب ياسطى؛ بالإضافة إلى عدد يصعب إحصاؤه من الأعمال التليفزيونية، بداية من: دموع في عيون وقحة، ضمير أبلة حكمت، رحلة السيد أبو العيلة البشري، مروراً بحديث الصباح والمساء، زيزينيا، والخواجة عبد القادر، ووصولاً لأدواره في: ظل الرئيس والجماعة 2 ورمضان كريم في عام 2017.
على ضفاف اليرموك
يتذكر الجندي أن أولى خطواته التمثيلية كانت من خلال فريق التمثيل بالمدرسة، والذي يوضح أنه انضم إليه “عنوة” نظراً لهزالة جسمه وصغر حجمه بجانب طلبة المدرسة في بلدته؛ فبعد إلحاح على المعلم المسؤول عن النشاط الفني، وافق على دخوله ليؤدي صوت الحصان من خلف الكواليس في مسرحية “على ضفاف اليرموك”، لكن يحكي محمود أنه بعد حضور والده يوم العرض لمشاهدته وأثناء تأديته لدوره في الخفاء “صعب عليا الناس ما تشوفنيش رحت داخل وسطيهم”، فتحول العرض التاريخي إلى عرض كوميدي وضجت الصالة بالضحك.
موعد مع القدر
أنهى محمود مدرسة الصنايع قسم النسيج، ثم التحق بالمعهد العالي للسينما وتخرج عام 1967 مع فنانين ومخرجين مثل داوود عبدالسيد وعلي بدرخان، في دفعة وصفها الجندي أنها “جاءت في موعدها مع القدر”، حيث أن تخرجهم تزامن مع ظروف الحرب والنكسة وسوء الأوضاع العامة، ومع ذلك كانت تلك المجموعة هي الألمع والأكثر إنجازاً في تاريخ السينما.
ولأن الحياة تحمل من المفارقات ما يؤهلها لتكون أكثر غرابة وتشويقا من الأفلام السينمائية، خرج محمود الجندي من المعهد إلى الجيش مباشرةً، ليقضى سبع سنوات من عام 1967 وحتى عام 1974 بعد العبور؛ حيث قضى سنوات تجنيده كظابط إشارة في القوات الجوية. ويتحدث عن مدة خدمته “كل مطار كان ليا فيه فضيحة”، حيث أنه وجد صعوبة في فهم طبيعة العمل والمهام المطلوبة منه، كما أن شغفه بمشاهدة الأفلام في السينما والعروض المسرحية جعل منه مجندا غير ملتزم بمواعيده وهي صفة خطيرة بالنسبة للعمل في الجيش، لم ينقذه من عواقبها إلا حسن حظه وتفهم القادة المسؤولين له.
في نفس السياق اشتهر الفنان محمود الجندي بولعه بأغنية “واه يا عبد الودود” التي تحكي قصة أب صعيدي يرسل لولده المجند بالجبهة، ويروي محمود “كانت السلام الوطني لنا أيام ما كنا مجندين”، حيث أنه كان صديقا مقربا للشاعر أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، وتعود زيارتهم كل إجازة، ومجالستهم بحوش آدم بالغورية.
نقطة تحول
في حياة “الجندي” حدث مأسوي، وهو وفاة زوجته نتيجة لنشوب حريق بمنزله عام 2001. ضاع مع الحريق أيضاً، كل مخزونه من الكتب والمؤلفات والصور ونسخ الأفلام وشهادات التقدير. يتحدث “محمود” دائماً عن ضياع “تاريخه” في ذلك الحريق، وعن رسالة إلهية أرسلها الله له ليغير طريقه، ويشير إلى ما كان يملكه من أفكار أخرجته في وقت ما من حظيرة الإيمان. وعاد بعد تلك العظة القاسية بشخصية أكثر تديناً، وأصبح “الحاج محمود الجندي”، وظهرت تلك الصبغة الدينية على الشكل الذي يقدم به معظم أدواره مؤخراً، وبالطبع على شخصه في الحياة وحضوره في اللقاءات التيلفزيونية والصحفية.
رد جميل وخبر اعتزال
لم يكن محمود الجندي وجهاً طيباً فنياً فقط، إنما التصقت به نفس الصفات في حياته. أحبه أهل بلدته وامتنوا لولائه لهم وعودته لإنشاء مركزا لنشر الثقافة وتعليم التمثيل السينمائي والمسرحي ببلده “أبو المطامير”.
سعادة الجندي في المقابل كانت دائماً غير مكتملة، فقد ظهر في أكثر من لقاء تليفزيوني وصحفي يتحدث عما يلمسه من سوء تقدير لتاريخه وفنه، وعدم احترام لاسمه، وإعطاء الأولوية لأصحاب البطولات الأولى والأجور المرتفعة، إلى أن انتهت تلك الشكاوى بخبر اعتزال منذ عدة أشهر؛ ووصف الموقف “كنا نمثل لنستمتع، وليس مثلما يحدث الآن، حيث تحول التمثيل إلى تجارة والكل هدفه الكسب المادي، حتى وإن كان على حساب الآخرين”.
تراجع الفنان القدير عن ذلك القرار في نهاية شهر أكتوبر الماضي، وعاد بالتجهيز لعمل مسرحي وهو “اضحك لما تموت” من تأليف الكاتب الكبير لينين الرملي وبطولة الفنان نبيل الحلفاوي والفنانة مي كساب ومن إنتاج المسرح القومي.