أحمد شعبان
في أحد الأزقة الضيقة بمنطقة وسط البلد، قريبًا من نقابة الصحفيين، يقع مقهى “عم غزال”، الذي فارقنا ورحل عن عمر جاوز السبعين عامًا بقليل. هناك، وتحديدًا خلف سينما أوديون الشهيرة؛ ظل الرجل يعمل في مقهاه، الذي يتخذ بين العمارات ممرًا صغيرًا تفترشه الكراسي، منذ ما يقرب من 40 عامًا، حرص فيها على خدمة زبائنه على أكمل وجه وأفضل صورة، حتى صار ذلك المكان الضيق ملمحًا مهمًا من ملامح وسط البلد.
جعل “عم غزال” من مقهاه ملاذًا وملجأ لهؤلاء الذين يبحثون عن الهدوء وسط ضجيج العاصمة، هؤلاء الذين يريدون حالة مختلفة من الألفة والتواصل؛ كانت “قهوة عم غزال” مقصدهم دائمًا، فالرجل القادم من صعيد مصر، من مدينة سوهاج، بشخصيته التي حملت ملامح الأصالة أضفى على المقهى روحًا مختلفة واشتهر المقهى باسمه رغم أنه ليس مالكه، فملكيته تعود إلى أخيه “ياسين”، بحسب ما يقول عدد من رواد المقهى الذين تحدث إليهم “إعلام دوت أورج”، ورووا حكاياتهم مع الراحل.
لسنوات طويلة، اعتاد فنان الكاريكاتير هاني شمس أن يجلس على مقهى “عم غزال”، جمعته ذكريات ومواقف كثيرة بالراحل، يبدأ حديثه معنا بالقول: ” رحيل عم غزال حاجة محزنة جدًا، ومؤلمة جدًا”، يكمل: “كان بقاله فترة طويلة أكتر من سنة تعبان، وبطل يجي القهوة بالليل كان دايمًا يجي بالليل لكن لما تعب بقى يجي الصبح، وآخر فترة مبقاش يجي خالص”.
“حكاية”.. هكذا وصف “شمس” عم غزال بكلمةٍ واحدة، واستطرد: “كان بيلبس جاكت طويل، وحاطط في جيبه اللي فوق أدوية وورقة فيها الحسابات، وهو ذكي جدًا ولطيف وودود جدًا وكان بيعمل جو رهيب للمكان، لدرجة أن القهوة اللي ملهاش اسم بقت باسمه، القهوة اشتهرت بسبب عم غزال، كان مثقف ويعرف الناس اللي بيقعدوا عنده، بيتعامل مع الناس وهو عارفهم كويس”.
لم يجمع الشاعر أحمد شبكة بـ”عم غزال” سوى مرات قليلة، تحدثا سويًا، “كان عامل سحر في المكان، كان شخصية لها هيبة كده ولطيف وبيقابل الناس بود، وعارف كل الوجوه اللي عنده”، يقول “شبكة” لـ”إعلام دوت أورج”، ويضيف مشيرًا إلى رواد المقهى: “كان بيجمع المثقفين في المكان، شفت عنده ناس كتير من المثقفين والكتاب”.
اجتذب المقهى كثيرًا من الصحفيين والساسة، الذين ارتبطوا بالمكان بسب “عم غزال”، كان الراحل يقدّر تواجدهم، ويعرف ماذا يريدون بالضبط، يضيف “شمس”: “عارف كل الناس اللي عنده عايزة إيه بالظبط، بيتعامل مع المسألة بشكل فيه حب كبير وود أكبر، مكناش بنطلب كنا بنشاورله نعرفه أننا جيبنا، فيرد علينا: حاااضر”.
ويحكي الكاتب والسيناريست باسم شرف، عن لطف وود الراحل وتعامله مع زبائنه وحرصه عليهم كأنهم أهله وأبنائه، قائلًا: “لما تروح عنده كأنك رايح بيته، بيعاملك كأنك ضيف ويجبلك أحسن حاجة عنده، لما كنت أشرب اتنين قهوة وأطلب واحدة تالتة، كان يقولي كفاية، كأني ابنه، ويجبلي عصير يقولي ده أفضل”.
“لما يكون معاك ضيف بيستقبله أحسن استقبال، وبيرحب بيه بشكل رهيب”، هكذا تحدثا “شمس” و”شرف” عن كرم الراحل وحسن ضيافته، ويذكر شمس: “كان معانا زميلتنا صحفية من إيطاليا، احتفى ورحب بيها بشكل كبير لدرجة إنها قعدت تتصور معاه”.
حرص الراحل على أن يظهر مقهاه بشكل لائق أمام رواده، يحرص على نظافة المكان، ومتابعة كل ما يتعلق بشئون زائريه، بالنسبة إلي رواد المقهى فهو ليس مكانًا لتناول المشروبات والجلوس لضياع الوقت فحسب، “كان بينظم القعدة كأنه مخرج عشان يطلع المشهد كله حلو في الآخر” يقول “شرف”، وفي نفس السياق يضيف هاني شمس: “عم غزال كان بيعمل حس جامد للقهوة، هو كاركتر، شخصية كدا، وعنده أداء حركي رهيب، وطريقة في الكلام والندا بيعمل حالة محدش بيعرف يعملها غيره.. كان بيدايق جدًا من الدوشة، وكان حريص على راحة رواد القهوة لدرجة إن لما عمل اشتراك بين سبورت عشان الماتشات، لغاه بعد أسبوع لغاه بسبب الزحمة، والدوشة، مش هدفه إنه يقعد ناس كتير على ماتش فيكسب وخلاص، مش ده هدفه، باختصار مكنتش مجرد قهوة بتقدم طلبات، بحس أن القهوة دي عاملينها مزاج”.
يكمل “شمس” متذكرًا كيف كان الراحل يهتم بالسؤال عن رواد المقهى، في حالة غيابهم فترة، يقول: “بعد ما يسلم عليك لما تقعد؛ لو بقالك فترة أو مش بتييجي أو فيه حد في أصدقائك مش بييجي يسأل عليه، ولما يرجع كان يقوله أنا سألت عليك واطمنت لما مكنتش بتيجي”، ويحكي “شرف”: “لما ماتت والدتي كلمني يعزيني، لأن العزاء كان في مكان بعيد عنه ومقدرش ييجي”.
من فرط حرصه على حسن معاملة زبائنه، كان يهتم بكل التفاصيل التي تسهل ذلك، كان يحب مهنته، “كان لذيذ في فكرة انه فاهم في الشغلانة وبيحسنها عشان يرضي الزباين، عنده وجهة نظر في اللي هيشتغل عنده، بيتعامل مع الموضوع بشكل مهني، مش بيجيب حد وخلاص لمجرد انه يشتغل، لأ، كان ممكن تلاقي حد جه اشتغل وتاني يوم تلاقيه مشاه، لازم اللي يشتغل عنده يبقى شخص ودود وبيحب الناس والناس تنبسط أنه موجود” يوضح “شمس”.
كانت حياة “عم غزال” رحلة طويلة من الكفاح والعمل، حكى عم غزال ذات مرة لـ هاني شمس عن حياته ونشأته يروي “شمس”: “هو الأخ الكبير لأخواته مكملش تعليمه، كان بيشتغل من وهو صغير في قهاوي كتير عشان يصرف على أخواته، فمكنش عنده فرصة انه يحوش فاتجوز متأخر، لكن أخوه عم ياسين صاحب القهوة كان عنده فرصة لكده، وعم ياسين كان واحد من الفتوات وشاب عفي، حاسس أنهم لما كانوا يتعاملوا مع بعض كانوا بيكملوا بعض، واحد قوة اللي هو عم ياسين والتاني غزال شخص ودود وبيتفاوض، فكانوا عارفين يسيطروا على الأمور” يكمل: “عم غزال كان بيحب عبد الناصر جدًا وشايف أنه أحسن واحد حكم مصر”.
“راجل من الزمن الجميل” هكذا وصفه مصطفى يسري، صحفي اعتاد الجلوس على المقهى، يقول: “كان يقعد يتكلم معاك ويعرف أنت منين، لو أنت زبون مستمر مجرد دخولك المكان المشاريب هتنزل على طول من غير ما تطلب، وكان بيسأل على اللي بيغيب، لو رحت عنده مرة واتعاملت معاه، مش هتبطل تروح هناك”.