قبل أسبوع من الآن، وتحديدا قبل ساعات من رفع الستار عن عرض “خمسميات” لفريق “بصي” المسرحي ضمن مهرجان “حكاوي الدولي للأطفال”، أخبرني أحد الأصدقاء أن العرض قد تم إلغائه لأسباب “تقنية”.
أثار مصطلح “تقنية” فضولي، فهذه النوعية من العروض المستقلة تعتمد فقط على الممثلين وبأقل حجم من الديكور والإكسسوار لعدم وجود تمويل كافي لأكثر من ذلك، فماهي المشكلة التقنية التي يمكن أن تواجه هذا العرض؟! لم تدم حيرتي طويلا، فبعد دقائق وصلني على البريد الإلكتروني بيان صحفي من فريق العرض، يؤكدون فيه أن العرض مُنع ولم يلغى لأسباب تقنية، بسبب رفض فريق العرض تدخل مديرة مسرح الهناجر – التي لا أعرف اسمها حتى هذه اللحظة – في محتوى العرض وتحفظها على بعض الألفاظ المستخدمة بالرغم من أن العرض للأطفال فوق 13 سنة، الأمر الذي رفضه فريق العرض بشدة لمساسه بالمحتوى ومصداقيته.
قبل أن نتطرق إلى هذه القصة، يجب علي أن أعرفكم سريعا بفريق “بصي”، وهو فريق من الشباب الهواة، المعنيين بمشاكل المرأة المصرية، بدأ في الجامعة الأمريكية منذ عشر سنوات، ثم خرج من حضن الجامعة ليكافح سلبيات المجتمع التي تمس المرأة، بداية بالتهميش والقمع والمعايير المزدوجة، ونهاية بالتحرش والانتهاكات الجسدية.
عرض قد يكون صادم للبعض، لكنه بالتأكيد ليس أكثر قسوة من الواقع المر. عرض يمول بالجهود الذاتية، يتسم في بعض الأحيان بجراءة التناول والألفاظ، لكنها الجراءة المبررة والمطلوبة لمواجهة المشاكل، جراءة بعيدة كل البعد عن الأفلام المبتذلة التي تمررها الرقابة وتدخل بيوتنا كل يوم.
لا أحب أن أمارس دور الواصي على المجتمع، من يقرر ما يجب أن يمر وما يجب أن يحجب، لكني بمنتهى الأمانة شديد الحماس للنشاط الثقافي للشباب، وأرى أن تلك العروض والأنشطة الشبابية التي تحرك المياه الجامدة، هي سبيل مجتمعنا للتخلص من الكثير من أمراضه الاجتماعية.
أرى في تلك العروض مساحة رائعة لتفريغ طاقة الشباب، تتيح لهم التعبير عما بداخلهم، تقلص الفجوة بين الطبقات، وتضيف مساحة مشتركة للتلاقي بين أطياف الشباب، وأن على الدولة أن ترعى تلك العروض وتدعمها، وإن لم تستطع تبنيها ودعمها، فعلى الأقل لا يجب أن تكون الدولة هي من تحاربها!
“إحنا مش عايزين شوشرة”.. هذا كان مبرر مديرة المسرح عندما حاول البعض التوسط بينها وبين الفرقة، خاصة أن قرار المنع صدر قبل ميعاد العرض بساعات قليلة بعد اسابيع من البروفات والوقت والمجهود، لعرض سيقدم لمدة يومين فقط.
جاءت هذه الجملة على سمعي كالصاعقة، ألم ننتهي من عصر المسؤولين المرتعشين، ألم تتكبد مصر الأمرين خلال الأربع أعوام الماضية بسبب المسؤولين الذين يفضلوا تجنب “الشوشرة” على أن يقوموا بوظيفتهم الحقيقية ويتحملوا المسؤولية فعلا!
إن هذا التصرفات الفردية من مسؤولي الدولة تزيد الفجوة والاحتقان بين الشباب والدولة يوما بعد يوم.. ألم تفكر المسؤولة كيف سيكون تأثير قرارها “الحكيم” على شباب بذلوا مجهود خرافيا دون أن يتقاضوا أجرا ليقفوا أمام عشرات الأشخاص ويشعروا أن لهم دور حقيقي في المجتمع؟ كيف سينظرون إلى الدولة؟ هل تلك المنافذ الثقافية تحرص فعلا على نشر الثقافة أم تدفع الشباب إلى حضن الإخوان وصفوف داعش؟!
اعادت تلك الواقعة إلى ذهني قصة شهدتها في أحد المؤسسات الحكومية، عندما ذهبت لاستخرج أحد الوثائق، فوجدت أن الكمبيوتر لم يُستخدم ولا مرة، خوفا من أن يتلفه أحد الموظفين.. إنه التفنن في إهدار الإمكانيات للتهرب من المسائلة. لأريد أن أحمل مديرة المسرح فوق طاقتها، لكنها في النهاية طرف في معادلة تظلم الشباب دون أن تدري أو حتى تريد ذلك.
هل تريد أن تعرف متى إنحدر المشهد الثقافي المصري؟ عندما تحول دور المسؤول من الاستماتة للدفاع عن حرية الفكر والتعبير إلى الدفاع عن مكانه كمسؤول.
اقرأ أيضًا:
كريم الدجوي :الموبايل الصيني يهزم المليارات!
كريم الدجوي :كيف لا نكون الخاسر الأكبر؟
كريم الدجوي : عن الدي جي أحمد زوؤلة الذي لم تقتله الداخلية
كريم الدجوي: السبكي وفيفي ومحمد رمضان.. واللي مالهمش دية!
كريم الدجوي: بورما وتشارلي إبدو وعلي جمعة!
كريم الدجوي: معادلة إعلام ما بعد يناير
تابعونا عبر تويتر من هنا
تابعونا عبر الفيس بوك من هنا