(1)
تنُص القاعدة على أنه إذا أردت لما تقدمه أن يدوم ويبقى فاربُطه بحدثٍ متكرر أو ذكرى قومية أو عيد.. كانت فيروز هي استثناء القاعدة فربطت ما فصل الشتاء باسمها وصوتها.
(2)
ارتبط اسم فيروز بالشتاء لأسبابٍ غير مفهومة أو معلومة.. وقد كانت هناك محاولات عدة لمعرفة مقادير الخلطة السرية التي تصنع هذا الترابط والالتحام بين الظاهرتين وتحافظ عليهما، لكنها كانت دون جدوى، وما يزيد الأمر غموضًا وتشويقًا هو أن الفنانة قد ولدت بشهر نوفمبر -تحديدًا اليوم ال21 منه – ليظل السؤال: ما هو الرابط بين فيروز والشتاء؟! ،بدون إجابة واضحة تحسم الموقف!
(3)
لا أذكر متى كانت المرة الأولى التي استمعت فيها لفيروز، لكنني أتذكر جيدًا ما قد سمعته لها حينها.. كانت أغنية “مش كاين هيك تكون” ..ورغم أنني لم أفهم من الكلمات شيئًا إلا بعد قراءتها بإحدى المدونات الإلكترونية، إلا أن تأثيرها قد أوصلني إلى الدرجة التي تسمح بأن تجعلني أعشق فيروز! ومحاولة البحث عن أسباب ذلك كانت فاشلة تمامًا، ففيروز لم تكن بالصوت الطربي الذي يجعلك تهيم قائلًا في شجن: “الله”، أو هى ذات الشخصية التي تراها وتعجب بأرائها وأبعادها الثقافية والفكرية فتقرر أنك ستستمع لأغانيها حبًا في هذه الشخصية، إذ أن شخصيتها قليلة الظهور ومُبهمة إذا صح التعبير.. لكن النتيجة الوحيدة التي يمكن استنباطها والوصول إليها هو أن فيروز تكون شريكة مشاعرك الأولى حينما تغني! فهي مثلًا شريكة الفرح بـ “سهر الليالي”، وهي شريكة الحزن بـ “ضاع شادي” ،وهي شريكة النوستالجيا والشجن بينما تقول “صاروا صدى” أو “يا سنيني اللي رحتي ارجعيلي”، وهي مخترعة معادلة “أنا لحبيبي وحبيبي إلي” التي حسمت الكثير من العلاقات، وهي الطرف الآخر في نقاشك حول الأحلام والفن وما جدوتهما بـ” اعطني الناي وغني”.
فيروز هي شريكة الصباح والمساء أيضًا.. هي مجددة الطاقة وراسمة الأمل ببداية اليوم وهي المعزية التي تستقبلك في نهاية نفس اليوم لتذكرك أن العالم جميل بقدر ما هو موحش ومتجدد بقدر ما هو ممل.. هي شط الأمان الروحي الذي يستقبلك دومًا، وأيما كانت حالتك ففيروز معك على طول الخط، لا يمكن أن تختلف معك حول رأي سياسي فهى لا تحب الحديث فيها أصلًا، ولا يمكن أن تختلف معها حول تصريح ما، فهي لا تصرح عادةً، كل ما نستقبله منها هو الغناء ولا غيره.. وربما لهذا كانت هي الشيء الوحيد الذي اتفق عليه جميع المختلفون في أشياءٌ أخرى، فيروز أيضًا لا يمكنك اكتشافها، لكنها حقيقة واضحة ستصل إليها حتمًا!
(4)
كانت جلسة عادية وودية جدًا، «عاصي الرحباني» الذي كان راعيًا رسميًا للموسيقى في لبنان آنذاك، بصُحبة الملحن «حليم الرومي» والد المطربة «ماجدة الرومي»، وظلت الجلسة عادية حتى قال حليم لعاصي: “هناك بنت تغني مع فرقة «فليفل» في الكونسرفتوار.. صوتها حلو”، سمع «عاصي» صوت البنت والتي كانت تحمل اسم «نهاد حداد» وإذ به يقول لحليم: “علّمها”.
نرشح لك: محرر عدد الكواكب عن فيروز: حسبي الله ونعم الوكيل
(5)
ولدت «نهاد رزق وديع حداد» بإحدى حواري بيروت عام 1935، لأسرة فقيرة إذ أن والدها كان يعمل بإحدى المطابع، وعاشت السنوات الأولى من عمرها داخل منزل عبارة عن غرفة واحدة.. تأثرت بأم كلثوم وعبد الوهاب، وقد انعكس هذا على ولعها بالغناء منذ الصغر.. بدأت مسيرتها الغنائية وهي في عمر السادسة تقريبًا، وكانت أول أغنية تغنيها بشكلٍ رسمي في إحدى الحفلات المدرسية عام 1946، وكانت المرحلة التالية هي التحاقها بالمعهد الوطني للموسيقى بعد محاولات شاقة لإقناع الوالد، ثم انضمت نهاد بعد ذلك إلى فرقة فليفل وغنت بها.. وظلت تغني حتى ظهر حليم الرومي!
(6)
لم يكذب «حليم الرومي» خبرًا، فأخذ «نهاد حداد» وعلمها وعمل على شحذ الموهبة وتجهيزها لأن تليق بأن تغني عام 1952 أغنية ” غروب” التي ستكون بمثابة البداية الحقيقية لمشوارها الفني باعتبارها تلحين «عاصي الرحباني»، الذي سيصبح زوجها بعد هذا التاريخ بثلاثة أعوام. انتهى حليم من كل هذا ولم يتبقى سوى أن يختار للفنانة اسمًا يليق بمفترق الطرق الذي سيصنع «جارة القمر».. فكان فيروز!
(7)
أثمر التعاون بين فيروز والأخوين رحباني منتجًا جيدًا ومختلفًا ذاع صيته ولاقى رواجًا للدرجة التي سمحت بأن يتعدى الـ800 أغنية، شهدت جميعها قدرًا كبيرًا من التنوع والتجديد سواء على مستوى القضايا المطروحة أو على مستوى اللون الموسيقى نفسه الذي كان خليطًا بين اللون الغربي والشرقي وصوت فيروز نفسه الذي كان مكملًا ممتازًا للمعادلة.
(8)
س: ما هو الرابط بين فيروز والشتاء؟!
ج: الشتاء يلزمه دفء، وهو ما يستطيع صوت فيروز أن يمنحه لكل قلب..