فاتن الوكيل
مع اللحظات الأولى لفيلم “في شقة مصر الجديدة” تبدأ موسيقى أغنية “أنا قلبي دليلي” على البيانو في الانسياب إلى أسماعنا.. يقطعه صوت “أبلة تهاني” رمز الحب وحلمه الجميل، وهي تُعلم تلميذاتها الموسيقى من خلال حب ليلى مراد وقلبها الذي دلها على حب أنور وجدي “حتى من قبل ما تشوفه”.
ليلى مراد التي تمر علينا ذكرى وفاتها اليوم 21 نوفمبر، هي بطلة من أبطال الفيلم بامتياز، روحها الرقيقة وقصة حبها لأنور وجدي جزء أصيل من حدوتة الفيلم الذي يمكن أن نقول أنه قدم الحب في مرحلته الأولى، الحب الذي يُحررنا ويأسرنا في نفس الوقت. لم يعتمد الفيلم على قصة رومانسية ساذجة لفتاة صعيدية تقع في حب شاب قاهري، لكنه قصة تحرر بالرومانسية، لم يشد المخرج الكبير محمد خان شخصية نجوى أو “نوجة” من يدها حتى تتحرر، لكنه استخدم رومانسية ليلى مراد لتحرير بطلته، ومن هنا فإنه لا يمكن الاستغناء عن طيف ليلى طوال الفيلم.
الفيلم مزج بين تيمة “قلبي دليلي” والموسيقى التصويرية طوال الفيلم، وفي النهاية، يعود صوت التلميذة نجوى مع صديقاتها وهن يُرددن أغنية “أنا قلبي دليلي”، ثم يظهر إهداء خان، “إهداء إلى ليلى مراد.. صوت الحب.. لكل الأجيال”.
قليلون من يبقى أثرهم بعد الرحيل أو التواري عن الأنظار إلى هذا الحد، فمثلا مات سيد درويش وعمره 31 عاما، لكنه الأكثر بقاءً بين الموسيقيين، سواء على المستوى الرسمي في النشيد الوطني، أو بين الفئات المطحونة في الشعب من سقايين وعربجية وموظفين وحتى حشاشين. هذا ما حدث مع ليلى، فعندما اعتزلت عقب آخر أفلامها “الحبيب المجهول” عام 1955، لم تتوقف سيرة أو يختفي طيف ليلى.
أثر ليلى الذي لم يغب بعد اعتزالها، ظهر في حبها لزملائها، على رأسهم عبد الحليم حافظ، الذي بمجرد أن سمعته يغني “صافيني مرة” عرفت أن هذا الصوت سيكون من أهم أصوات الوطن العربي.
صدقا لا أشعر على الرغم من حبي لحليم، أنهما من عالم واحد، هي شديدة الرومانسية، وهو شديد الواقعية والذكاء، لا تشابهات بينهما سوى حب الفن واللحن الجميل، والإحساس التلقائي بالمسؤولية الإنسانية من قبل ليلى تجاه هذا الشاب النحيل الموهوب، وكان ذلك كافيا لأن يتسلل حليم إلى روح ليلى العذبة، فقبل ساعات قليلة من بروفة ليلى مراد مع بليغ حمدي ليعملا على أغنيتها الجديدة “تخونوه”، تلقت طلبا من حليم لتتنازل له عن الأغنية ليقوم بأدائها خلال أحداث فيلم “الوسادة الخالية”.. ضحكت ليلى وقالت “ربنا يوفقك”.
https://soundcloud.com/ranyasalahel-din/kygsii841ppt
يقول بليغ خلال أحد حواراته القليلة في التلفزيون، إنه لم يُصدق حليم، وأصر أن يتحدث مع ليلى ليعرف منها حقيقة تنازلها عن الأغنية. تلقى بليغ منها ذات الضحكة الرقيقة وقالت له “يا بليغ هنتقابل في حاجات كتير.. هم عايزينها في الفيلم يا ابني ابتدي البروفة”.
ظلت ليلى حلما للعديد من الملحنين للعمل معها حتى بعد اعتزالها، وهو ما قاله بليغ حمدي في أحد البرامج التلفزيونية بعد سنوات طويلة من اعتزال ليلى، حيث وقف مفتخرا أنه تمكن من إقناعها بالقدوم إلى أحد البرامج والغناء من ألحانه. وقفت ليلى في خجلها المعهود، مشبكة كفيها في بعضهما من الخجل وهي تُغني، حتى أن شعورا يمكن أن يداهمك في كثير من الأوقات، بأن هذه الفنانة العظيمة لم تعلم يوما بقدر أهميتها وتأثيرها بالشكل الكافي.
طيف ليلى الجميل، لم يُلق فقط على أعمال حليم وغيره من الفنانين، ولكنه طُبع في أرواح محبيها، على اختلاف قاماتهم ومجالاتهم، كان انطلاق صوتها يعني دخولهم في حالة روحانية مختلفة.
خففت “ليلى” عن جمال الغيطاني مراراة سجنه في الستينيات عندما كان يغنى لزملائه أغنياتها، حتى أنه يقول في أحد حواراته “كان ممنوع الكلام بينا فكنا بنسرق وقت لما الرقابة تغيب عننا وكنت حافظ أغاني ليلى مراد وسيد حجاب كان يقول لي ما تسمعنا يا جمال، فكنت أهيم بليلى مراد”، وقام بغناء مقطعا من الأغنية بصوته. وخلال اللقاء ارتسمت على وجه الغيطاني ابتسامة رائقة قلما تظهر نظرا لأن الجميع لم يُناقشه سوى في الأمور السياسية والأدبية، لكن بمجرد ذكره اسم ليلى مراد استرد هذه الابتسامة وهذه الحالة التي تتغلفه وتحيط به. هذا هو الأثر.. أثر ليلى الذي لا يزول.