فاتن الوكيل
عندما سُئل الشاعر أحمد فؤاد نجم عن مصدر المصطلحات والكلمات التي يستخدمها في أشعاره، ويصف من خلالها مصر وسكانها بدقة، قال “بص حواليك”.. لم يكن هذا منطقه في كتابة الشعر فقط، لكنه طريقة وأسلوب حياة، جعله يمتزج بمكونات مجتمعه، ويتصالح معها بكل تناقضاتها، حتى أن علاقاته مع بعض الأشخاص والمعاني كانت تُثير تعجب واستغراب المحيطين به.
نرشح لك – 10 أغاني غير سياسية لـ”شاعر البندقية” أحمد فؤاد نجم
أربع سنوات مرت على الوفاة المفاجئة والهادئة لـ”الفاجومي”، لذلك نُركز اليوم في ذكرى الرحيل 3 ديسمبر، على علاقات غير نمطية ربطت بين “عم نجم” مع محيطه.
“صحوبية” مع السجان
يحكي أحمد فؤاد نجم عن أول مرة دخل فيها السجن، كان السبب “تزوير في أوراق رسمية” ومكث فيه نحو ثلاث سنوات. يتذكر هذه الفترة ومأمور السجن “اللواء إبراهيم عزت”، ويصفه بأنه “فيه لطشة فن”، فكان يُشجعه على كتابة الشعر، وبحكم المكان وتجربة السجن، بدأ نجم الكتابة عن مواجعه، ومن المفارقات أن نجم الذي ظل طوال عمره يناضل ضد السجن والسجان، إلا أنه يتذكر الندوات التي كان يعقدها له السجن كل يوم أربعاء، لإلقاء الشعر، حتى أنهم أطلقوا عليه لقب “شاعر السجن”.
لا خصومة بينه وبين أفراد، بل مع الظلم والاستبداد والقبح والرداءة، لذلك لم تكن لحظات القبض عليه، مشاهد كر وفر أو توتر وغضب.. في ذكراه الأولى قالت ابنته “نوارة الانتصار” في حوار تلفزيوني، إن “نجم” عندما قُبض عليه في فترة حكم السادات، وجاء رجال الأمن إلى منزلهم، قال لزوجته السابقة الكاتبة صافيناز كاظم : “اعمليلهم شاي ولو فيه عشا حطي”.
مواقف أخرى يرويها أصدقاؤه ورفاق مسيرته، تُشير إلى هذه العلاقة غير النمطية بين شاعر معارض ورجال أمن، ففي تظاهرة احتجاجية على ترشح الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك نفسه في انتخابات الرئاسة عام 2010، خرج نجم مع رفاقه اعتراضا على استمرار حكم مبارك، وعندما توترت الأجواء وبدأ الأمن في فض التظاهرة، قال أحد الضباط “ابعد أنت يا عم نجم إحنا مش عايزين نقربلك” لكنه لم يستجب.
نرشح لك – أحمد فؤاد نجم.. قصائد “شاعر الشعب” خلف أسوار الزنازين
ضد إحراج الحرامية!
عندما اختارته المجموعة العربية في النداء العالمي من أجل مكافحة الفقر التابعة للأمم المتحدة سفيرا للفقراء عام 2007، سُئل في لقاء تلفزيوني “عملت إيه للفقراء يا عم أحمد؟”، فرد “زودتهم واحد”.. قبل ذلك قال عند اختياره إنه سيشكل حكومة عالمية وزرائها من “السيد المسيح وعلي بن أبي طالب الذي قال “لو كان الفقر رجلا لقتلته” وأبو ذر الغفاري الذي قال “إذا جاع أحد فلا أمان”.
ومن بين الأمور التي لم تكن تُسبب لنجم أي مشكلة هي “الفلوس” وجعل الله جيبه من النوع الذي لا يستقر فيه قرش ولا جنيه، الأكثر من ذلك هو العلاقة الغريبة التي جمعته بمن حوله في “حوش قدم” من أهل الله وحتى “الحرامية”، فكانت غرفته سبيلا يأتي إليه أهل المنطقة، وتذكر نوارة نجم أنها كانت جالسة مع والدها في غرفته ورأت رجلا يدخل ويفتح “الدرج” ويأخذ بعض الأموال، فقالت لـ نجم “حرامي يا بابا!”، وكان الرد “طب دوري وشك عشان متحرجيهوش.. ووطي صوتك عشان لو سمعك هيتكسف.. أنتي شايفة نفسك في الزمالك ؟ أكيد بيسرق عشان محتاج”.
“حمورية” في حب الوطن!
في حوار لـ”عم نجم”، تحدث عن العلاقة الغريبة بين مثقفي الستنيات والزعيم جمال عبد الناصر، خاصة من تعرضوا للسجن في عهده، ثم رثوه بالقصائد بعد موته، فرد نجم بتلقائية “كان بيستحمر ف حب مصر زينا وبيلطش”. وعلى مدى الحوار ظل نجم يفتخر بـ”الحمورية” في حب الوطن، ويُطلق على نفسه تلك الصفة، وهو أمر غير نمطي في تعريف حب الوطن، لكنه أصر أن طبيعة المصري تجعله عاشق لوطنه إلى هذا الحد.
وبمنطق بيت الشعر الذي كتبه الراحل صلاح جاهين في قصيدة “على اسم مصر”: “واكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء. واسيبها واطفش في درب وتبقى هي ف درب. وتلتفت تلقيني جنبها في الكرب”، يحكي نجم عن فترة خروجه من السجن عام 1982، واستعداده للسفر خارج مصر مباشرة، وكيف أن الغضب من البلد دفعه للقيام بالتبول على سلم الطائرة لإعلان سخطه على ما مر به، لكنه عاد مرة أخرى وأول ما فعله، كان تقبيل الأرض والبكاء على ابتعاده هذه الفترة عن مصر وغضبه منها.
“كلب الست”
ماذا لو لم يقم “عم نجم” بكتابة قصيدة “كلب الست”؟، لن يعرف أحد بعد مرور السنوات وربما الأشهر والأيام القليلة بقصة “إسماعيل” طالب التربية الرياضية الذي عضه كلب الست أم كلثوم، وعلى إثر ذلك وقعت مشاجرة بينه وبين خدمها ودُفع إلى حجز قسم الشرطة عدة أيام، وتم حفظ المحضر لأن الكلب مرتكب الواقعة هو “كلب الست”.
أحمد فؤاد نجم في هذه القصيدة الساخرة بمرارة من سطوة النفوذ والسلطة حتى “الفنية” منها، وقف في وجه “كوكب الشرق” وحبه لها، وهي التي لم تجرؤ الأقلام على نقدها، إما حبا أو خوفا، لكن نجم سجل هذه الواقعة التي تحولت الآن إلى أغنية تُردد في العديد من الفرق الموسيقية الشبابية.
امتلك نجم رؤية مختلفة وصراحة مفرطة تجاه الفنانين، مثل عبد الحليم وعبد الوهاب، وخالف القاعدة الأعم في حب الجماهير لهم، لكن تظل واقعة أم كلثوم الأبرز، فعلى الرغم من أنه كان عاشقا لصوتها حتى أنه قال “كنت بعبدها ومحدش حفظ أغانيها زيي”، لكن بسبب واقعة “كلب الست” لم تقبل ثوريته السكوت والموافقة على الظلم، بعد أن علم ما كتبه وكيل النيابة الذي حقق وقتها في الواقعة وحفظها قائلا: ” حيث أن الخدمات التي أدتها أم كلثوم للدولة كفيلة بأن تعفيها وكلبها من المسؤولية الجنائية.. أمرنا بحفظ التحقيق”.
https://www.youtube.com/watch?v=jSesKbUJEuw
حوار الموت
“هتقولي بتشكي أومال من إيه؟.. ولا من أوجاع ولا شوق لمتاع ده أنا عمري إن ضاع مش هبكي عليه أبدا يا طبيب”.
ذكر الشاعر مايكل عادل، إن نجم قال لهم ساخرا في إحدى جلساتهم بـ”دار ميريت”: “أنا لو مت مش هزعل”. مشيرا إلى علاقتة المتصالحة مع الموت، والتي ظهرت أيضا من خلال أشعاره.
لم يتمكن شيء من فرض “الكآبة” على الفاجومي حتى الموت. يحكي الشاعر إبراهيم داوود عن الفترة التي عاشها مع نجم واستضافته له في منزله فور قدومه إلى القاهرة، أكد أنه لم يكن يعرف معنى اليأس والاكتئاب، وعندما سألته إحدى الصحفيات مرة عن سبب “اكتئابه” رفض إكمال الحوار معها قائلا “شايفاني عضو في نادي الجزيرة عشان اكتئب؟!”.
عاد أحمد فؤاد نجم من الأردن في 2 ديسمبر من عام 2013 بعد أن قام بإحياء ذكرى اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وفي اليوم استيقظ في منزله فجرا، وغادر الدنيا في هدوء يوم 3 ديسمبر.