طاهر عبد الرحمن
اقتحم ملثمون مجهولون منزل شيخ الصحفيين المصريين الأستاذ وديع فلسطين قبل أيام، ومن الواضح أنهم يعرفون الرجل حق المعرفة، ويعرفون أهمية أوراقه ومذكراته، وكانت هدفهم الأول. ومع أنه كان من السهل عليهم سرقتها أو أخذها دون عناء يذكر، فالرجل يعيش بمفرده، ثم إنه شارف على المائة عام، أي أنه بلا حول ولا قوة، ولكنهم لم يكتفوا بما سرقوه وإنما أوسعوا الشيخ ضربا وسحلا، وربطوه في السرير، وهو الأن بين الحياة والموت في المستشفى.
أول مرة قرأت فيها اسم وديع فلسطين كان في عدد نوفمبر 1999 من مجلة “الكتب وجهات نظر”، كان شراء تلك المجلة يعتبر “حدثا تاريخيا” بالنسبة لطالب صغير السن لا يتعدى مصروفه اليومي 2 جنيها، ولذلك كان لزاما علي -لعدم الإحساس بالذنب نتيجة شرائي المجلة التي كان ثمنها 10 جنيهات كاملة- أن أقرأ كل ما فيها من مقالات ودراسات “من الجلدة للجلدة”، ومع أن الداعي الرئيسي لشرائي إياها كان -مثل الكثيرين- هو اسم محمد حسنين هيكل ومقاله الشهري فيها، إلا أن مقال “في صالون مي” بتوقيع الأستاذ وديع فلسطين كان الأكثر تميزا فيها.
نرشح لك: 13 تصريحًا لـ صفاء فيصل المدير الجديد لـ BBC في القاهرة
لم أكن قرأت له شيئا من قبل، ولم أكن أعرفه من الأساس، وبدا -كما هو واضح من اسمه- أنه ليس مصريا، خصوصا وأن التعريف المصاحب له في المجلة أنه “كاتب صحفي وعضو مجمع اللغة العربية في الأردن وسوريا!”. وهكذا ظل اعتقادي كلما قرأت له مقالا أو صادفني اسمه في مجلة أو جريدة، حتى عرفت -من مقال قديم في أحد أعداد مجلة الهلال- أنه مصري.. وكان ذلك خطأي الأول في حقه.
وأما الخطأ الثانى هو ظني أن الرجل قد توفاه الله، حتى كانت حادثة أو فضيحة موظفة التأمينات التي تعاملت معه -ودون النظر لسنه المتقدمة فضلا عن جهلها بشخصه وقيمته- بأسلوب “جلف” وغير آدمي بالمرة، وذلك حين أصرت على حضوره أمامها في أحد الطوابق العليا “لتتأكد” أنه على قيد الحياة! وتسمح ياستمرار صرف معاشه، وهو ما دعى السيدة التي ترافقه وترعاه أن تحمله وتصعد به!
ولم يكن كافيا -كما أحسست من كلامه في حوار صحفي- أن يتم ترضيته ب”بوكيه ورد” من وزيرة التضامن، ولا أيضا اهتمام الصحافة المصرية به وبتاريخه وإسهاماته، ومع أن الكاتب الكبير تلقى تلك الاعتذارات بروح سمحة ومتسامحة، إلا أن “المرارة” والألم من التجاهل والتطاول عليه كانا أصعب من أن يخفيهما أو يداريهما، وهو بالتأكيد لا يستحق أيا منهما، ولكن ماذا نفعل إذا كانت آفة حارتنا -كما قال نجيب محفوظ- النسيان؟!
ولعل أكبر مرارة تلقاها الكاتب الكبير في حياته والتي لن ينساها أبدا، أو يسامح من تسببوا فيها أنه لم يتم اختياره عضوا في مجمع اللغة العربية المصري بسبب أنه “مسيحى”!! تماما كما حرم نجيب محفوظ من بعثة دراسية في الخارج بسبب اعتقاد المسؤلين في جامعة فؤاد الأول أنه “مسيحى”.. فمنذ متى أصبحت الديانة سببا في المنح والمنع؟!
ومع كل تلك الأخطاء والخطايا في حقه فإنه لم يكن يريد سوى قضاء شيخوخة هادئة لكن “الحوادث” تأبى ذلك، فل سيمنحنا عفوه ويسامحنا عن كل هذا؟!.. ربما.