نقلًا عن “المقال”
ظهور اسم هذا الكتاب في قائمة “الكتب الأكثر قرائية” للمصريين في عام 2017، يحمل أكثر من مفاجأة ودلالة.
فهو ليس فقط كتابا جادا، وإنما أيضا كتاب يعيد قراءة منطقة حساسة وشائكة في التاريخ الإسلامي، تتعلق بالطريقة التي قتل / غاب بها عشرات من الحكام ممن حملوا ذات يوم لقب فخم ذو أثر سياسي وديني كاسح هو، أمير المؤمنين.
أي أن الكتاب لايعد قارئه بتسلية عابرة، أو قصة حب رومانسية، أو حتى مجموعة نصائح مباشرة على طريقة “كيف تصبح سعيدا وناجحا ووسيما وثريا في 12 خطوة؟”، وإنما، ومن العنوان الفرعي للكتاب “النهايات الدامية لخلفاء المسلمين”، ثمة اتفاقا ضمني بين الكتاب وقارئه، أن الأخير سيخوض منطقة ملغومة، وأن الأمر قد ينتهي بأسئلة وشكوك أكثر من إجابات ومسلمات.
ربما يكون السطر الأخير هو أحد الأسباب التي جعلت “دم الخلفاء” تصدر له نحو 5 طبعات في أقل من عام واحد، وهو عدد طبعات كبير إجمالا (قد يصل في أقل التصوارت إلى 5 آلاف نسخة وقد يزيد عن 15 ألفا)، خاصة إذا كان موضوع الكتاب بالأساس هو التاريخ.
نظرة سريعة على قائمة المراجع التي استعان بها المؤلف “وليد فكري”، وهي مراجع قاربت الـ 70 مرجعا، بعضها من أمهات كتب التاريخ التي يستعصي هضمها على القارئ العادي، تكشف ملمحا أخر من ملامح قصة وصول هذا الكتاب لقطاع عريض من القراء، إذ ثمة مجهود بحثي كبير قام به المؤلف لإنتاج كتابه، وقدرة على استخلاص المعلومات والأحداث ومقارنتها بين المصدر والأخر، صحيح أن هذه أدوات بحثية منطقية لأي مهتم بالتاريخ، إلا أن قدرة المؤلف على هضم كل هذا ثم صياغته وتقديمه في لغة تشويقية ذكية قريبة وليست متقعرة أو متعالية، كان أحد العوامل التي ساهمت في انتشار الكتاب، الذي بلا شك أيضا كان أحد عوامله، هو الجو السياسي والاجتماعي العام في السنوات الأخيرة الماضية، وما صاحبه من إعادة إنتاج لمفاهيم قد اندثرت مثل “الدولة الإسلامية” أو “دولة الخلافة”، وتداخل كل ما سبق مع قدر غير قليل من الدموية والتوحش.
انتشار “دم الخلفاء” بين القراء في كل الأحوال ليس نجاح لحظي أو استثنائي، ذلك لأن مؤلفه والذي يفضل أن يقدم نفسه للقراء بوصفه “باحث حر في مجال التاريخ”، لديه مشروع حقيقي واضح المعالم يتعلق بإعادة قراءة المساحات الرمادية والسوداء في التاريخ إجمالا، وإعادة تفسير الوقائع، وإزاحة الظلال الموضوعة عمدا على حقائق وأحداث راسخة، حتى أن “دم الخلفاء” هو كتابه الخامس في مشروعه هذا الذي بدأ عام 2010 بكتاب “تاريخ شكل تاني”، ليصدر بعده أربعة كتب أخرى هي، و”تاريخ في الظل”، و”مصر المجهولة” و”دم المماليك”، وأخيرا “دم الخلفاء”.
ينطلق الكتاب من حقيقة مفادها أن نحو 25 من “أمراء المؤمنين” قد قتلوا خلال سنوات حكمهم، وأن هذا الرقم يمثل تقريبا ربع عدد الحكام الذين تربعوا على عرش “الخلافة الإسلامية” لسنوات، فما الذي جرى؟، وما الذي جعل الطريق إلى هذا المنصب مغموسا بالدم؟
على عكس التوقعات، لايفتتح “دم الخلفاء”- إصدار دار الرواق- بالحديث عن وقائع قتل “عمر بن الخطاب” باعتباره صاحب واقعة القتل الأولى للخلفاء المسلمين، وإنما يتوقف طويلا عند الخليفة الأولى “أبو بكر بن أبي قحافة” المعروف بـ”أبو بكر الصديق”، ذلك رغم أن المتداول عن وفاة خليفة رسول الله الأول، أنها جاءت “طبيعية” بسبب إصابته بالحمى عقب قيامه بـ”الاغتسال في يوم بارد”. لكن إعادة قراءة وقائع وتفاصيل هذا الزمن، تجعل المؤلف يشكك في أن تكون وفاة “الصديق” طبيعية، ذاهبا للقول بأن أول خليفة للمسلمين عقب وفاة الرسول، قد تعرض للاغتيال بطريقة أو بأخرى.
التفاصيل مهمة هنا طبعا. وفاة أبو بكر جرت في شهر أغسطس. وهو شهر معروف بكونه ذروة شهور الصيف الحارة، كيف توفي أبو بكر إذن بحمى لأنه اغتسل في يوم بارد؟ الأمر لا يقف عند هذه النقطة فحسب، بل هناك ملامح أخرى تتضح في تتبع طبيعة إدارة أبو بكر لشئون الدولة الإسلامية الوليدة التي لم تكن فقط تعيش صدمتها الكبرى عقب وفاة الرسول، وإنما تواجه رزمة من التحديات تتمثل في “ارتداد بعض القبائل عن الإسلام وعن دولته، وتمرد بعض القبائل على السلطة ورفضهم دفع الزكاة، وصولا إلى إدعاء بعض القبائل “شراكتها للنبوة” مع النبي محمد، ووجود معركة حربية على وشك الحدوث مع مماللك على تخوم الدولة البيزنطية ودولة فارس”. بعد عامين فقط من الإدارة الحازمة الصارمة الذكية، حسم أبو بكر كل هذه الملفات الملغومة، واستقرت دولته الجديدة، وقضى على حركات الردة والتمرد، وترسخت سيطرته على القبائل، بل وتوسعت حدوده وقد حقق انتصارات حربية لافتة.
يطرح وليد فكري سؤال المنطقي هنا “رجل كهذا، كيف لايكون هدفا للاغتيال؟”. ليبق السؤال التالي إذن، هو من فعلها؟ قائمة المشتبه فيهم وفقا لـ”دم الخلفاء” كبيرة، “بدءا من القيادات القبلية التي اضطرت للخضوع لسلطة المدينة، مرورا بأمراء المدن العربية الواقعة على خط العمليات العسكرية التوسعية في شمال الجزيزرة وحدود الشام وانتهاء بسلطات الدولتين العظميين فارس وبيزنطة، خاصة وأنه كانت ثمة محاولة من الملك الفارسي الأسبق أن يقتل الرسول محمد”.
محاولات الوصول إلى تفسيرات “الموت الغامض” الذي طال أول الخلفاء، امتدت في الكتاب لتحاول فك لغز ذلك الشاب الفتي المعروف باسم “معاوية بن يزيد”، الذي مرت فترة حكمه القصيرة لـ”دولة الخلافة” ولم تزد على ثلاثة أشهر فقط، بعاصفتين غيرتا من المستقبل السياسي لـ”الدولة الإسلامية” تمام. الأولى فعلها هو بإرادته إذ صعد على منبر المسجد في دمشق ليعلن للناس “تخليه عن المنصب” وسط مناخ عاصف يغلي فيها أنصار الحسين بالثأر في بغداد، ويعلن فيه ابن الزبين نفسه “خليفة” على الحجاز. وعقب ذلك “التنحي” الدرامي عن الحكم، جاءت الوفاة المفاجئة التي لاتقل درامية، إذ توافد الناس على بيت “معاوية” عندما علموا أن الخليفة الشاب، إذ لم يزد عمره حينها عن 20 عاما فقط، يحتضر، حتى عندما سألوه وقد بات واضحا أن الموت يقف فوق رأسه أن يسمى لهم خليفة، قال عبارته الشهيرة “لم أذق حلاوتها، فلم أتحمل مرارتها بعد موتي؟”. وبوفاة معاوية غادر الحكم بيت “أبناء أبي سفيان” ليستقر في بيت “مروان ابن الحكم وأبناءه”، وهو انتقال درامي ومفصلي بدوره، ويجعل الشك حول وفاة “شاب في العشرين من عمره” فجأة مثيرة للشكوك، مما يدفع “دم الخلفاء” ليطرح ذلك السؤال “هل قرر كبار البيت الأموي أن من يفترض به أن يمثلهم ويجمعم ويرعى مصالحهم قد خرج عن الوظيفة المنوط بها، بل وأصبح يمثل تهديدا على ما ما جاؤوا به لكرسي الخلافة لأجله، فقرروا إنها خدمته بشكل لايثير اللعط، مثلما قد يفعل الخروج المسلح؟”. للأسف لا توجد مصادر كافية للحصول على إجابة حاسمة لهذا السؤال، لكن ذلك، لايمنع بقاء السؤال عالقا مثيرا للتفكير والتدبر.
هكذا يقف “دم الخلفاء” عند نهايات زمن “أمراء المؤمنين” محاولا الفهم والتفسير، واضعا ملابسات الرحيل للخلفاء عن الحياة في سياق قد يعين على فهم ما إذا كان الاختفاء عن المشهد بيد القدر أم بيد الأعداء أم بيد الطامعين في الحكم، تاركا لقارئه في كثير من الأحيان أقواس الأسئلة مفتوحة، لعله يصل هو بنفسه إلى تفسير مغاير حول هذه الجرائم والألغاز، التي أحاطت بالتاريخ، والتي يبدو أنها ملازمة دوما لكل من تطلع إلى كرسي الحكم وسعى إليه.