في البداية كان الأمر مصادفةً ليس أكثر، لكن المصادفات هي أساس الأشياء. في دمشق –مدينة الياسمين- كل شيءٍ مختلف، لذلك لماذا لا يكون المسرح مختلفاً كذلك؟ حال وصولي إلى هناك، سارعت للاتصال بغسان مسعود، وناهيك عن التسميات والألقاب، فغسّان صديقٌ حميم، حتى ولو أنّك تعرفه منذ ساعاتٍ قليلة، رجلٌ حقيقي، فنانٌ موهوب، وفوق كل هذا بتواضعٍ وأدبٍ جم.
أخبرته أنني في دمشق، فقال إذاً نلتقي غداً. وبتسارعٍ مدهش التقينا، وكانت جلسةٌ نقاشٍ حول المسرح والدنيا والسياسة وكل شيء، لكن أهمّ ما كان فيها سؤاله إن كان سيسمح لي أن أشاهد تدريبات مسرحيته الجديدة “كأنه مسرح” (والتي تعرض على مسرح “الحمراء” في دمشق). سألته دون مواربة: “هل اخترت المسرحية لأن لوتس ابنتك هي الكاتبة”؟ أجابني: “بل إن المسرحية هي التي اختارتني، لوتس أصلاً كانت شديدة الدهشة حينما أخبرتها بأنني اخترت المسرحية، هي لم تتوقع أبداً أن أقوم بذلك”.
صلاحُ الدين في “Kingdom of heaven”(للمخرج ريدلي سكوت) والمسرحي القدير والذي يمكن اعتباره واحداً من علامات المسرح في العالم العربي يقرر أن يعود إلى عالم المسرح من جديد بعد غياب، ليس بالأمر العادي، فالكل يعرف قيمة مسعود المسرحية. وافق مسعود برحابة صدر، وقال “تعال وشوف وبعدين احكم”. ابتسمت في وجهه وأنا أعرف تماماً أنني لن أغيّر رأيي إذا ما كانت المسرحية رديئة أو أنَّ اختياره للممثلين لم يكن مناسباً. دعوت الله في قلبي ألا تكون المسرحية سيئة، فقد خسرت كثيراً من أصدقاءٍ لأنّهم لم يحتملوا رأيي في مسرحياتهم أو أعمالهم الفنيّة، فنحن حتى اللحظة في هذا الشرق الواسع لا نتقبّل النقد ولا نتحمله، مهما كان بناءاً ومهما كان مفيداً، بل نقيسه بحسب أهوائنأ، ونعتبره دائماً “هداماً” وله “مآربُ أخرى”.
توجهت صوب المسرح في اليوم الذي تلاه، وصلت قبل غسّان، استقبلني الفنان الفلسطيني السوري(في سوريا أصلاً لايمكنك أن تفرّق بين فلسطيني وسوري لا في السلوك ولا في اللهجة ولا في أي شيء) غسان عزب أثناء نزولي درجات المسرح، عزب الذي أبدع في مسلسل “قناديل العشاق” مؤخراً (2017) والذي عمل مطوّلاً مع المخرج العراقي جواد الأسدي؛ كان لطيفاً حينما أخبرته أنني ضيف الأستاذ غسان فأشار علي أن أجلس في مقاعد المشاهدين حتى وصول الأستاذ. على المسرح كانت ناظلي الرواس، روبين عيسى، وأيمن عبدالسلام يتدربون بصوتٍ مرتفع. لم أكن قد شاهدت الثلاثة وجهاً لوجه من قبل، آثرت ألا أعرّفهم بنفسي، قلت لو فعلت لربما سيخفف ألأمر من عفويتهم، فلأجلس صامتاً، ولأتفرّج على إدائهم، حتى ولو كانوا خارج التدريب الرسمي.
كنت أذكر ناظلي من خلال عملين مهمين لها الأوّل هو غداً نلتقي (2015) حيث عرّفتنا كجمهور عربي على مقدرتها الإدائية، وقبله في “قلم حمرة”(2014) الذي كان مليئاً بالنجوم ومع هذا كانت شخصيتها بارزة، وكلنا يعرف أنه حينما يزداد عدد الممثلين المَهَرة في أي عمل فإن فرصة التألق تتضاءل. تألقت ناظلي وقتها. أيمن عبد السلام لربما هو أحد أبرز الوجوه السورية الشابة، فقلما تجد عملاً سورياً أو لبنانياً-سوريا يخلو من اسمه، مرونته كممثل، بالإضافة إلى شكله/هالته المحببة تجعلنا كمشاهدين نتقبل وجوده ونحبه. روبين عيسى بدورها قلةٌ يعرفون أنّها “مسرحية” بإمتياز، فهي فور تخرّجها قدمت مع المخرج سامر اسماعيل “ليلي داخلي” والتي لَفَّت العالم العربي وحققت نجاحاً كبيراً، فحضورها تلفزيونياً ظاهر كما في باب الحارة(8و9) ومذكرات عشيقة سابقة وحرائر. كان الثلاثة يمازحون بعضهم، يهرجون بلغةٍ أبسط، فهذا نوعٌ من التقارب الذكي بين الممثلين يجعلهم أقرب إلى بعض في عملٍ ليس بالسهل وأمام مخرج “معلّم” بكل ما تعنيه الكلمة.
وصل غسّان. ومنذ اللحظة الأولى تغيّر كل شيء، بدأ العمل جدياً جداً. حركة، تدريب: شيئان لفتا نظري للغاية: أنَّ غسان سهلٌ مع ممثليه، ليس قاسياً، ليس عنيفاً، ولا حاداً. توقعت أن يكون كذلك، ففي المعتاد حينما تكون ماهراً إلى هذا الحد، تصبح متطلباً للغاية من ممثليك، بينما كان غسّان عند كل مشهدٍ يريد أن يغيّر فيه من إداء ممثليه يؤديه أمامهم. في لحظةٍ ما احتاج مصطفى المصطفى إلى تدخّل غسان، مصطفى الذي عرفه الجمهور ويتذكره كثيراً عبر دورين مهمين: الأولّ في باب الحارة مع شخصية مزين فتوح (الـcomic relief في المسلسل)، والثاني ولو كان قصيراً في مسلسل “الندم”. هنا بدأ “السحر”: أدى غسان المشهد كما يريد لمصطفى أن يؤديه، زاد مصطفى عليه شيئاً من عنده، توقعت أن يوقفه غسّان، توقعت أن يطلب منه التأدية كما أدى، بدا غسان سعيداً بإداء المصطفى. لم يكن بطلا العمل قد وصلا حتى اللحظة: ديما قندلفت ومحمود نصر. كانت التدريب يتحرّك سريعاً، بدت راما عيسى، الفائزة بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة (2008) تؤدي بحرفة، الصبية التي عرفها الجمهور مع مسلسلات مثل نص يوم(2016) ويوميات مدير عام (2011) بدت مرتاحةً في إدائها.
لاحظت أنَّ روبين عيسى تتكلّف تمثيلاً (التعبير إدائياً بدقة هو overacting) إذ تتصنّع الإبتسامة والضحكة، قلت في نفسي: لربما ليست في مكانها المناسب، لكن غسان كان قد أخبرني خلال لقائنا السابق بأنّه لا يختار أحداً إلى بعد “اختيار ممثلين”(casting) دقيق ومحترف وأنَّ “نجمات” كثيرات ومعروفات لم يأخذهن في هذا العمل. قلت ربما تكون “غلطة” الشاطر. وصل محمود نصر، نصر الأوّل على دفعته والمعيد في المعهد العالي للفنون المسرحية في سوريا عرفه المشاهدون من خلال دور “عروة” في مسلسل “الندم”(2016)، والذي قدمه كممثل يمتلك مهارات كبيرة، منذ لحظته الأولى بدا شغوفاً بدوره، يتحرك ويؤدي ويعطي كما يجب. وإذا كنا نتحدث عن الأوائل على المعهد العالي للفنون، فيجب ذكر لجين إسماعيل، نجم فيلم “رد القضاء” وأحد أقرب الوجوه السورية خلال الأعوام الفائتة إلى القلب، والذي بدا صراعه وأيمن عبدالسلام في المسرحية ممتعاً. القصة التي تتحدث عن “مسرحية” داخل المسرحية، مخرجة العمل تحاول جمع ممثليها المشتتين كلٌ لأسبابه: أيمن بشخصية المعارض، فيما لجين المؤيد، ومصطفى المثقف المتأرجح. استمر التدريب أكثر من ساعة، سأل غسان كثيراً عن بطلته: أين ديما؟ قلت في نفسي: لربما هذا هو داء “النجمات” في بلادنا. فديما قندلفت واحدة من نجمات السينما/التلفزيون السوري والعربي. استمر التدريب على أشده، لم يرتح الممثلون خلال الساعة الأولى من التدريب، لكنهم كانوا بهمةٍ ونشاط.
أخذت لوتس مسعود (كاتبة النص المسرحي وابنة غسان) جانباً وسألتها بضع أسئلةٍ حول المسرحية، بدت خائفةً ومبتهجةً في آنٍ معاً، هذه هي مسرحيتها الأولى مع والدها. وصلت ديما خلال الراحة التي سمح بها غسان لممثليه للتدخين وشرب بعض القهوة. دخلتُ الكواليس لأفاجئ بديما. كانت بلا مكياجٍ نهائياً، ابتسمت في وجهها وكدت أسألها عن سبب تأخرها لولا أنّها كانت تخبر الأستاذ بأنها قد وصلت لتوّها من “بيروت”، وأنَّ الطريق كان مزدحماً ولولا ذلك لما تأخّرت لثانيةٍ عن التدريب. لُمتُ نفسي قليلاً لأنني ظلمت ديما، لكن قلت فلأترك الأمر جانباً، أريد أن أراها “تؤدي”. لم يطل الأمر، كانت ديما تشعر بالبرد، أحضرنا لها “جاكيتاً”، جلست مرتجفةً بعض الشيء، فيما عاد الجميع إلى التدريب. اقتربت منها هامساً سائلا عن أعمالها القادمة حدثتني بتلقائية أنّها تحضر أغنية للميلاد، وأنها على عادتها كل عام تفعل ذلك. أنا الذي لم أكن أعرف أنّها تغني فوجئت. لكن المفاجأة الكبرى، أنه وأثناء حديثنا ابتسمت في وجهي وقالت لي: “دقيقة”. أنا لم أفهم شيئاً، إلا حينما صعدت ديما إلى المسرح، جلست إلى كرسي الشخصية الرئيسية وبدأت بالتمثيل. لم تحتج ديما لساعةٍ من التحضير، كما لم تحتج للكثير من “التمرينات” قبل الدور و”الدخول في الجو”(mood). وبدأ استعراض “المهارات” الحقيقي: كانت المرة الأولى في حياتي التي أشاهد “Character actor” يؤدي مباشرة أمامي.
دخلت إلى الدور مباشرةً، تخطت زمن الرجع (The Click وهو الزمن الذي يحتاجه الممثل ليترك شخصيته ويدخل في شخصيةٍ أخرى) بسرعةٍ فائقة، والأكثر من هذا “بكت” دموعاً حقيقية. لم يكن المشهد قصيراً، كان قرابة الدقيقتين أو ثلاث دقائق من المباشر المسرحي مع محمود نصر، الذي أثبت هو الآخر أنه قدير، إذ في المسرح هناك دائماً صراع “من سيأكل المشهد”، بدا الإثنان قادران، ولكن الكفة مالت لصالح ديما كون دورها كان أطولاً. لعبت ديما دور مخرجة العمل التي تكتشف أنها مصابة بالسرطان والتي تقرر إيقاف علاجها الكيميائي لأسباب خاصة ناهيك عن أنّها في علاقة شديدة “التخبّط” و”مجنونة” مع محمود نصر عازف البيانو وموسيقي مسرحيتها. بدأت المشاهد بالتراكم أمامي، بتُ أنتظر إعادة صعود ديما إلى المسرح برغبةٍ أكثر. مرت أكثر من ساعتين على هذا التدريب، أخذت الشخصيات بالتشكّل أمامي، كان النصُ عميقاً. خلال ذلك دخل غسان عزب أكثر من مرةٍ ليس كمساعدٍ للمخرج (أي كمساعد لغسان مسعود)، بل في دور “أمين المسرح” و”حارسه” (ضمن المسرحية) صارخاً في الممثلين (في المسرحية) كي يكفوا عن لهوهم. ومع تراكم المشاهد، تنبهت إلى أمرٍ آخر: لم تكن روبين عيسى تصطنع التمثيل (أو overacting) بل إن دورها هو “هكذا”، يحتاج الدور إلى تصنّع، فشخصية الزوجة التي يخونها زوجها فيما هي تعرف وتصبر وتتحمّل وتخفي يجعل الدور صعباً. كانت روبين “تصطنع” أنّها “تصطنع” التمثيل، وهذا في حد ذاته صعوبةٌ بالغة.
في الختام فهمتُ تماماً لماذا اختار غسّان مسعود نصاً مثل هذا للعودة إلى المسرح: هذا نصٌ يشبهه إلى هذا الحد. ظهرت حبكةُ النص التي تحاكي السياسة وتقاربها وإن بطريقةٍ إلتفافية ذكية، وهذا أمرٌ لافت خصوصاً إذا ما عرفنا بأنَّ لوتس لاتزال في عقدها الثاني من العمر، وتجربة مثل هذه ستصقلها بشكلٍ هائل، وإذا كانت قدّمت هكذا عمل ومع طاقم ومخرج مميزين إلى هذا الحد فإن القادم سيكون أفضل وأكبر وأهم. انتهى التدريب في لحظةٍ ما، كنتُ قد نسيت الوقت، كان قد مر أكثر من أربع ساعاتٍ، لم أشعر في لحظةٍ واحدةٍ بالتعب أو الملل، مع أنَّ كثيراً من المشاهد أعيدت غير مرةٍ أمامي، كانت تعاد كل مرةٍ بطريقةٍ مختلفة، بزيادة مشهدٍ هنا، أو تفصيل هناك، كان المرح السمة الأكثر بروزاً، ولطف غسان مسعود (فضلاً عن ليونته ومرونته الحركية التي ظهرت في أكثر من مشهد حينما أداه أمام ممثليه). بدا المسرح “عفياً” في تلك اللحظة، محمياً “بشدة” من رجال ونساء يعرفون كيفية تقديم عملٍ لجمهورٍ ينتظر أعمالاً مسرحيةً تليق به وبهم.
ملاحظة: (تعرض مسرحية “كأنه مسرح” للمخرج غسان مسعود على مسرح الحمرا في دمشق ابتداءً من 26 الشهر الحالي).