فاتن الوكيل
أرّخت آلاف الصور ومقاطع الفيديو لدور المرأة الفلسطينية في تأكيد معنى المقاومة والتحدي والقوة في مواجهة الاحتلال الصهيوني، حتى أصبح لدينا مخزونا وافرا من النماذج النسائية الفلسطينية سواء من الاستشهاديات أو المناضلات والأسيرات أيضا، لكن هذا لم يمنع تجدد الانبهار والإعجاب بقوة الفتاة والمرأة الفلسطينية عندما تقف في وجه الاحتلال.. عندما تكون بعيدا عن عدوك، يُحاول خداعك بزيف قوته، لكن الفتاة الفلسطينية تقف وجها لوجه أمام الاحتلال والخوف والقوة، تُصارعها وتطرحها أرضا، وتخرج منتصرة، حتى وإن أصبحت أسيرة، وهذا ما جسدته الصبية الفلسطينية عهد التميمي، التي تم أسرها يوم 18 ديسمبر، من منزلها بعد ساعات من صفعها لجنديين اقتحما ساحة منزلها صباحا، ضمن حملتهم لقمع مسيرات ومواجهات اندلعت ضد الاحتلال إثر قرار دونالد ترامب الرئيس الأمريكي بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بها عاصمة للكيان الصهيوني.
(1)
“الجميلات هُنَّ الصغيراتُ.. وَعْدُ غدٍ وبراعمُ زنبقْ”.. محمود درويش
شهرة تسبق الأسر حاوطت المناضلة الشابة “عهد التميمي”، فعهد المولودة في مارس 2001، في قرية النبي صالح شمال غرب رام الله، اعتادت كل يوم جمعة أن تُشارك أبناء بلدتها في المسيرة الأسبوعية ضد الاحتلال وسياسة سلب الأراضي وبناء المستوطنات عليها، واشتهرت عام 2012 بعد أن صرخت في وجه جندي صهيوني “وين ودتوه؟” وهي تسأل عن مكان شقيقها “محمد”، الذي أسره الاحتلال خلال المسيرة.
نرشح لك: 11 تصريحًا لـ مصطفى خضر.. أبرزهم عن مراكز تدريب “بير السلم”
ولم تكن عهد الوحيدة في أسرتها التي تقف في وجه الاحتلال وتتعرض للأسر، فوالدها “باسم” ووالدتها “ناريمان” تعرضا لاعتقالات واعتداءت مرات عديدة، لكن عدسات المصورين التقطتها وهي تقف بشجاعة في وجه المدرعات والجنود، تصرخ في وجههم وتركلهم وتتوعد لهم، كان المحتلون يستقبلون هذا بضحكات مستهترة بهذه الطفلة الصغيرة، لكنهم سريعا ما يضيقون بالكلمات النارية التي تلقيها عهد عليهم مع رفاقها من الأطفال، فيلقي أحد الجنود قنبلة صوت، بغية تفريقهم، ثم يُفاجأ بهم يقفون مرة أخرى، يصرخون ويُطاردون الجنود حتى الإفراج عن أسرهم.
(2)
“هم أصلا جبناء ومفكرين إن سلاحهم هيحميهم.. بس فلسطين ربتنا على إنه منخافش من أشكال زي أشكالهن”.. عهد التميمي
كما رأت وعاشت عهد لحظات اعتقال والدها ووالدتها وشقيقها، رأت أيضا لحظة استشهاد عمتها وخالها، لكنها بثبات قالت “بحزن كتر بس شو بدنا نعمل؟ هيك الله كاتب إنه يصير وكله فداء فلسطين”. لا ترى عهد أن فلسطين ستعود بالسلام، ولا ترى فائدة من أن يجلس كل فلسطيني في منزله ليتابع نشرات الأخبار وهي تعلن اقتطاع جزءًا جديدًا من أرضه لتُبنى عليها المستوطنات .. “من حق شعبنا يختار المقاومة المسلحة أو الشعبية.. بدكم تستنوا صلاح الدين يرجع يحررها؟ ليس ما نصنع من حالنا صلاح الدين ونرجع نحررها؟”.
في 2015 عرفت عهد بلقب “صاحبة أشهر عضة”، وذلك بسبب مدافعتها عن شقيقها “محمد” من محاولة الاعتقال. توضح عهد أنها لم تكن تنوي عض الجندي الصهيوني، لكنه ظل يضرب شقيقها على ذراعه المكسور، وأصر على اعتقاله، عندما تجمعت هي وأمها وعمتها وقمن بدفع الجندي عن شقيقها، أصر على اعتقاله بل والاعتداء على الآخرين وهنا قامت بعضه.. “كنا نقدر نقتله لكن إنسانيتنا منعتنا”.
(3)
الجميلات هُنَّ القويّاتُ .. يأسٌ يضيء ولا يحترقْ.. “محمود درويش”
من قال إنها لا تخاف؟، لكنها الإرادة التي تجعل الخوف صغيرا أمام الوطن والأهل. قبل اعتقالها هذا العام، كانت تعرف عهد منذ أن شاركت أبناء بلدتها “النبي صالح” في الخروج في المسيرات ضد سيطرة المستوطنين على عين المياه التابعة لأهل القرية، أن لحظة اعتقالها وأسرها قادمة في أي وقت، لكن ذلك لم يمنعها من العيش كطفلة تذهب للمدرسة التي تعلمهم تاريخ فلسطين والشام، تلعب من أصدقائها، وتُقاوم أيضا.
قالت عهد في في لقاء من اللقاءات العديدة التي سجلتها، إنها ترى صور مدينة نيويورك وتسمع الكثير من الناس يتحدثون عن أنها مدينة كبير، لذلك أرادت أن تسافر إليها، قبل هذا التصريح قالت أيضا إن الفلسطينيين لا يخشون من فوز ترامب، فهم اعتادوا على المقاومة. من أحلام عهد التي أرادت تحقيقها ووقف الاحتلال عائقا أمامها، أن تُصبح لاعبة كرة قدم، وأن تذهب إلى البحر الذي تراه وهي على مرمى حجر قريتها، ويمكن الوصول إليه بالسير نصف ساعة فقط، لكن حواجز الاحتلال منعهتم من تحقيق هذا الحلم البسيط.
لا ينبت أطفال فلسطين بهذه القوة بشكل “شيطاني” كالكيان الذي يحتلهم الآن، لكنهم رأوا في سنوات معدودة ما يمكن لشخص أن يشاهده في دقائق فقط على شاشة التلفزيون، شاهدوا اعتقال الأهل واستشهاد الأحباء بأعينهم وليس من خلف عدسات الكاميرات.
للأسرة أيضا دور كبير في هذه القوة التي رأيناها في أعين عهد، سواء خلال المسيرات أو حتى عندما جلست جميلة وهادئة في جلسة محاكمتها، وعلى الرغم من أن “باسم التميمي” والد عهد أكد من قبل أن تربية الأطفال في ظل الاحتلال يعقد مسؤوليته كأب أكثر، إلا أنه يرى أن مشاركة الأطفال في مسيرات قريتهم عززت ثقتهم في أنفسهم أكثر، ودربتهم على مواجهة الاحتلال.
حديث الأم “ناريمان” التي أعتقلت أكثر من 5 مرات أمام أعين ابنتها، لم يختلف كثيرا، مضيفة أن منزل أسرتها ليس الوحيد الذي عانى من اعتقالات الاحتلال، وأنها تشارك في المسيرات وتقوم بتصوير ما يحدث من الجنود، ثم تعلمت الإسعافات حتى تتمكن من مساعدة جرحى المواجهات.
(4)
ها هي عهد تدخل بنفسها تجربة الاعتقال الأولى، البداية ليست لحظة الاعتقال التي تمت من داخل منزلها في ساعة متأخرة من مساء الاثنين 18 ديسمبر، عندما قامت قوة من الاحتلال بمداهمة المنزل وأسرها، بالإضافة إلى الاعتداء على أفراد أسرتها والاستيلاء على الأجهزة الإلكترونية منه، لكنها منذ صباح يوم الاثنين عندما قام جنديان باقتحام ساحة منزلها في قرية النبي صالح، فتصدت هي وشقيقتها وشقيقها ووالدتها لهما. قامت عهد بما تفعله دائما مع المحتلين، صرخت في وجهيهما، وعندما لم يتسجيبا، ركلتهما وصفعتهما، ثم بدأت في دعوة أهالي قريتها للقدوم، عندها بدأ الجنديان في التراجع.
اعتقال في نص الليل وتصريحات متعجرفة من مسؤولين صهاينة على شاكلة “يجب أن تقضي سنوات من حياتها في السجن” واجهتهم عهد وأسرتها بشجاعة، فعندما ذهبت والدتها إلى السجن للسؤال عليها، اعتقلت هي الأخرى، لكن هذا الاعتقال الغبي جعل منها أيقونة جديدة للثورة الفلسطينية، وإن كانت بالفعل رمزا للمقاومة منذ طفولتها.
https://www.youtube.com/watch?v=S_v7NcNEjSM
(5)
“سجِّل.. برأسِ الصفحةِ الأولى
أنا لا أكرهُ الناسَ
ولا أسطو على أحدٍ
ولكنّي.. إذا ما جعتُ
آكلُ لحمَ مغتصبي
حذارِ.. حذارِ.. من جوعي
ومن غضبي”
إذا كان الشاعر محمود درويش قد قال “وبي أملٌ يأتي ويذهب، لكن لن أُوَدعه”، فإن عهد كمثال للفتاة الفلسطينية، أملها يأتي ولا يذهب، يتمسك ويتشبث ولا يُفرط، أمل مؤكد غير قابل للاحتمال. بمجرد أن تكتب على محركات البحث كلمة عهد التميمي أو اسم قريتها “النبي صالح” ستظهر لك عشرات اللقطات المصورة لمسيرات المقاومة الشعبية التي تعترض على استيلاء المحتلين عن عين المياه هناك أو على بناء المستوطنات، وستجد صورة عهد بشعرها الذهبي المنطلق، وهي تجري هنا لتواسي أحد المتظاهرين بعد تعرضه للضرب، أو تصرخ هناك في وجه أحد جنود الاحتلال.
ظهرت عهد باسمة في جلسة محاكمتها، نظراتها مازالت قوية ورأسها مرفوع، وهي حسب ما صرح والدها “مقاومة ومقاتلة من أجل الحرية، ولا تحتاج شفقة أو رثاء من أحد، بل رسالتها أن يكون لدى العالم كله قناعة مفادها أن الفلسطينيين لن يتركوا أرضهم أبداً، وأن كل جيل يخرج من بين صفوفهم يحمل على عاتقه مهمة تحرير الأرض”.
https://www.facebook.com/GNNA.NOW/videos/1993280717666090/?pnref=lhc.friends