رحل صلاح عيسى، توقف قلب “الراوي” ولم يعد في مقدوره أن يستكمل “حكايات من دفتر الوطن”، مع أن هناك “حكايات” كثيرة كانت تنتظر قلمه هو وليس أي قلم آخر..
أول كتاب قرأته له كان “هوامش المقريزى”، فكرته عبقرية، سهلة جدا وصعبة جدا، مواقف وأحداث صغيرة لكنها مؤثرة، لا تلمحها إلا عين خبيرة، مدربة على الانتقاء والاختيار والفرز، عين مؤرخ حقيقي، مع أنني لا أعتبره “مؤرخا” بالمعنى التقليدي، هو روائي بالأساس، يروي التاريخ بطريقة سهلة غير مخلة، مستخدما كل عناصر الرواية وإن كانت كل كلمة يكتبها موثقة ومن مصادر معروفة. تنطبق عليه المقولة الشهيرة “الهواية أشد غواية من الاحتراف”.. هوايته قراءة التاريخ، وغوايته البحث عن “الحكايات” التي لايتلفت إليها المؤرخون الكبار، أشعر طول الوقت أنه يكتب لنفسه كي يستمتع بالتاريخ، ودون أن يقصد يمتعنا معه!
كانت نكسة 1967 عاملا حاسما في قراءاته وكتاباته، هو من القلة القليلة التي لم تنكسر أو تكتئب نتيجة الهزيمة المروعة، ظل يقينه ثابتا بقدرة الشعب على العودة ثانية لميدان القتال، وهو اليقين الذي وجده في قراءة التاريخ ثم الكتابة عنه وفيه، لم يكن ذلك هروبا من الواقع الدامي بل استعادة لدروس وعبر، أحداث وشخصيات بمنطق أن الوطنية المصرية -في هبوطها وصعودها- على مر الزمن ليست سوى حلقات متصلة، وإذا خسرت حلقة منها جولة فإن الحلقة التالية سوف تنتصر.
بدأ بالثورة العرابية، حلل كل عناصرها وقواها الفكرية والعسكرية والاجتماعية، ثم توالت كتبه واحدا وراء الأخر، وكلها عن الوطن وللوطن، وعلى الرغم من أن معظمها كتب في السجون والمعتقلات نتيجة نشاطه السياسي، إلا أنها بدت وكأنها “صلاة” لا تنقطع في محراب مصر.
أسأل نفسي كم مرة قرأت “مأساة مدام فهمي”، أو “رجال ريا وسكينة” أو “رجال مرج دابق”؟ صراحة لا أذكر، ولا يهمني أن أحسبها ، أقرأ فقط لاستمتع وأتعلم منه. قليل جدا من الكتاب الذين يملكون لغة خاصة بهم، مفردات وتراكيب لغوية مبتكرة، لو قرأتها في نص دون أن تعرف اسم الكاتب فإنك ستعرفه بسهولة، منهم صلاح عيسى؛ لغته ساخرة معظم الوقت، حتى في أحلك المواقف سوادا ومأساوية، في روايته الوحيدة “مجموعة شهادات ووثائق لخدمة تاريخ زماننا” لم يشتم أو يحاكم أو يدين جلاديه ومعذبيه في السجون، بل سخر منهم سخرية لازعة، تجعلنا نشفق عليهم، لأنه ظل طول الوقت أقوى منهم رغم التعذيب والجلد والسياط.
نرشح لك – صور: أغلفة أبرز 13 كتابا قدمهم صلاح عيسى
هو “الجريح” صاحب “التباريح” الذي لم يكف أبدا عن حب مصر، رغم كل العذاب والقهر وخيبة الأمل التي عانى منها طول عمره، على الرغم من أمراض الضغط والقلب التي أصابته نتيجة ذلك العشق والهوى.