محمد هشام عبية – نقلًا عن “المقال”
نافس هذا الكتاب رواية “موسم صيد الغزلان” للروائي الأكثر مبيعا أحمد مراد على لقب “كتاب العام” في التصويت السنوي الذي يجريه برنامج “معكم منى الشاذلي” على قناة “cbc” بين جمهوره. فازت الرواية بالطبع باللقب لأسباب عدة، لكن “الملك والكتابة” لمؤلفه محمد توفيق حل في المرتبة الثانية، وكان ذلك أمرا لافتا بشدة، ويعطي رزمة من الدلالات الإيجابية على المزاج القرائي للجمهور في مصر.
نرشح لك: محمود الدسوقي يكتب: سواكن محافظة مصرية في الوثائق القديمة
أولا، الكتاب -الصادر عن دار دلتا للنشر- يستعرض وبعمق تلك القصة الدرامية التي لا تنتهي أبدا بين الصحافة والسلطة في مصر، أي أنه كتاب يكاد يكون نوعيا ومتخصصا. قد يقرأه بالأساس دارسو الصحافة والمهتمون بأحوال السياسة، لكنه ثمة شيء ما، ربما في أسلوب مؤلفه السلس، أو في قدرته على اختيار حوادث ووقائع بعينها ذات صراع مثير، أو في أن الكتاب إجمالا يعطي صورة بانورامية -حتى ولو كانت انتقائية- لمصر في نحو نصف قرن مضى، أو لأن الجهد المبذول في الكتاب متجليا في الاستعانة بأكثر من 80 مرجعا بعضها يضم إصدارات صحفية نادرة وكتب متخصصة اختفت طباعتها الأولى منذ زمن، إضافة إلى نحة 10 مقابلات شخصية، وهو أمر غلف الكتاب بمنهجية وجدية واضحتين، أو ربما لكل هذه الأسباب مجتمعة، فإن “الملك والكتابة” حجز لنفسه مكان متقدما في اختيارات القراء لعام 2017.
نرشح لك: محمد هشام عبيه يكتب: لماذا لا يعمل الصحفي سائقا للتاكسي؟
يبدو “الملك والكتابة” إجمالا مشروعا شديد الطموح، وهو من تلك النوعية من الكتب التي تتطلب جلدا وصبرا وحماسا ومحبة كبيرة من مؤلفها لإنجازه، يظهر هذا في الإشارة إلى أن الكتاب من المتوقع أن يصدر في أربعة أجزاء، كل واحد منها يختص فترة زمنية بعينها، تلاقت فيها سلطة الحكم مع سلطة الصحافة، وجربا فيها كل أشكال العلاقات الإنسانية المعروفة، من قرب، ونفور، محبة، وكراهية، صفقات، وفضائح، معارك، وهدنات، تحدي، وتألف.
وإذا كان الجزء الأول قد اختار أن يقتنص فترة زمنية شديد السخونة والدراماتيكية في العلاقة بين الصحافة والسلطة في مصر (1950- 2000) وهي فترة تناوب فيها على البلاد خمسة من الحكام، ومرت فيه بثلاثة حروب وتحرك استثنائي من ضباط الجيش تحول لاحقا إلى ثورة على “طبيعة الحياة” وليس فقط على “نظام حكم”، فإن الأجزاء الأخرى من “الملك والكتابة” والتي من المنتظر أن تصدر تباعا، لن تقل سخونة أو توهجا، ذلك أن قصة العلاقة بين الصحافة والسلطة في مصر منذ أن نهايات القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا، أشبه بفيلم تشويقي مثير، ما أن تهدأ أحداثه وتبدو للجمهور أنها استقرت في منطقة آمنة، حتى تعود للفوران والاشتباك من جديد.
نرشح لك: العدد صفر.. قصة الجريدة التي تشارك في قتلك كل يوم
يبدأ “الملك والكتابة” أولى فصوله من قلب ذروة معركة صحفية مثيرة وغير مسبوقة، ولم تتكرر قط في تاريخ الصحافة المصرية. عنوان المعركة هو “الأسلحة الفاسدة” التي استخدمها الجيش المصري في حرب 1948. البطل هنا هو الكاتب الصحفي النجم آنذاك “إحسان عبد القدوس” الذي لم يكتف فقط بالكتابة عن وقائع القضية مدعما أقوال بالمستندات وإنما كما يقولون “على السقف”، وقرر أن يطالب بالتحقيق مع وزير الحربية “حيدر باشا”، ثم “على السقف” أكثر وطالب بإقالته.
كانت هذه هي أول وأخر مرة في تاريخ الصحافة المصرية التي يطالب فيها صحفي على صفحات مجلة (روزاليوسف) بإقالة وزير في منصب سيادي حساس مثل وزير الحربية. الغريب أن معركة إحسان عبد القدوس نجحت، وأن حيدر باشا استقال بالفعل، تحت وطأة حملة إحسان عبد القدوس الصحفية، وهو انتصار صحفي مدو، ربما لم تكن نالته بعض الصحف البريطانية الضاربة في القدم والعراقة في هذا الزمن. لكن القصة لم تنته بعد بهذه النهاية السعيدة التي تبدو فيها “الصحافة” وكأنها قادرة على توجيها الضربات إلى السلطة في أكثر المناطق حساسية وخطورة. بعد أربعة أعوام من هذه الواقعة، وبحسب ما يرويه “الملك والكتابة”، تكشفت حقيقة الأمر. أعيد فتح التحقيق مجدا في قضية “الأسلحة الفاسدة”، وانتهى التحقيق إلى ثلاث مفاجآت (الأولى، أن الضباط الأحرار هم الذين أعطوا المستندات لإحسان عبد القدوس.الثانية، أن “صلاح سالم” عضو مجلس قيادة الثورة هو الذي سرَّب المستندات التي تدين “حيدر باشا”.الثالثة، أنه لم تكن هناك أسلحة فاسدة.وتم حفظ التحقيق إلى الأبد!)
حسنا. لم تكن الصحافة هي المنتصرة في هذه القضية إذن. بل أن الحقائق تقول بأن جناحا ما في السلطة استخدم الصحافة في معركته ليطيح بجناح أخر من طريقه. المدهش أن حقيقة مثل أن “إحسان عبد القدوس جرى استخدامه في معركة سياسية دون أن يدري (هل كان يدري فعلا؟)، أو أن قضية ضخمت هزت مصر في منتصف القرن العشرين وعرفت باسم يثير الرعب (قضية الأسلحة الفاسدة) ثم تبين لاحقا أنها “…..” ولا جذور لها في الواقع، المدهش حقا أن كل هذا انزوى في صفحات التاريخ، وبقي الاسم الرنان للقضية “الأسلحة الفاسدة” واسم الصحفي مفجرها “إحسان عبد القدوس” خالدان إلى الأبد… فهل كان ذلك أيضا فصلا من فصول الصراع بين الصحافة والسلطة في مصر؟ ربما.
لكن الصحافة تنتصر أحيانا.
وقد حدث هذا عام 1990، كانت مصر حينها تعيش في فترة سكون داخلي، استقر حكم مبارك، واستقرت معه أجنحة نظامه، الذي كان يضم بين جنباته وزير داخلية منفلت اللسان والسلوك هو “زكي بدر”، وذات يوم كان الوزير في جلسة في مجلس الشعب، وبدا له أنه يتعرض لحصار من بعض النواب يناقشونه في سلوك ضباط الشرطة، فما كان منه إلا أن صفع نائبا على وجهه، وقم بتوجيه السباب والشتائم لعدد آخر من النواب، وكان من قبل هذه الواقعة قد وصف بعض الأدباء والسياسيين بأنهم “دلاديل، وشواذ جنسيًّا، وحرامية، وهُبل وشيوعيين، ونصابين، ومُهربين، ويقبضون العمولات”.
كانت جلسات مجلس الشعب حينها تذاع مسجلة وقد تعرضت للمونتاج، وجرى حذف هذه الفقرة التي اعتدى فيه الوزير على النواب باليد وبالقول، واسترسل فيها بالشتائم للجميع، لكن الصحافة كانت موجودة. ونشرت صحيفة الشعب التي كانت تصدر عن حزب العمل المعارض حينها وقائع ما جرى، وكانت قد بدأت في إطلاق حملة صحفية شرسة قبل ذلك تطالب فيها بإقالة وزير الداخلية ليس فقط بسبب تقصيره الأمني وإنما أيضا بسبب سلوكه السياسي غير المنضبط على الإطلاق. وبعد بقاءه في منصبه أربعة أعوام صاخبة. صدر قرارا رئاسي بإقالة وزير الداخلية.
وكان هذه هي آخر مرة يجرى فيها إقالة وزير داخلية من منصبه على أثر حملة صحفية. هل يكشف هذا عن تراجع في قوة الصحافة وتقليم لأنيابها؟.. ربما.
لكن الأكيد أن الصراع بين الصحافة والسلطة- كما يستعرضه الملك والكتابة- لا يوجد فيه منتصر أبدي أو خاسر دائم، العلاقة بينهم أشبه بنزال في حلبة ملاكمة. قد يوجه أحدهما للآخر ضربة عنيفة فيسقط أرضا لفترة، وقد يتلقى نفس هذا الطرف الضربة فيظل متماسكا في مكانه، وإذا كانت انتصارت الصحافة هي الأكثر أثرا، فإن انتصارت السلطة هي الأكثر عمر وامتدادا. ضربة السلطة العنيفة هي دوما أشد غشما وبطشا، بينما ضربة الصحافة لاتستهدف – عادة- سوى التقويم وضبط سلوك السلطة، وفي كل الأحوال تبقى المشكلة الكبرى أن الجمهور المتابع يصفق دوما للمنتصر ولا يأخذ بيد الطرف الملقى على جنبات الحلبة أغلب الوقت!