العلاقة بين الكاتب والرئيس، أو بين الملك والكتابة، بالغة التعقيد والغرابة، الرئيس يريد تصفيقاً حاداً، وتهليلاً مبالغاً فيه، واتفاقاً على طول الخط، وشيكاً على بياض، وانصياعاً تاماً، ودفاعاً مستميتاً، وطاعةً عمياء، وتقديراً لكل أفكاره، وتبجيلاً لرؤيته، واندهاشاً من قدرته، وحديثاً دائماً عن إنجازاته، واعتقاداً راسخاً بأنه لا يخطىء، لذا يبحث عمن يتفق معه، ويوافقه الرأي، ويعجب بأفكاره، ويفتح فمه مندهشاً من عبقريته، وبالتالي فالخلاف بين الكاتب والرئيس شبه محتم ما دام الكاتب حراً، ومبدعاً، وخلاقاً، وصاحب موقف، ولديه رأي، ويملك رؤية، لكن الأزمة تبدأ حين يتحول الاختلاف إلى خلافٍ حاد، ثم ينتقل إلى مرحلة الصدام الذي دائماً ما يدفع الكاتب ثمنه وحده، فالرئيس عادةً لا يدفع الثمن.
هكذا قدم محمد توفيق كتابه الوثيقة (الملك والكتابة)، وهو التاسع للكاتب الصحفي الشاب، والمهني المبدع المجتهد، فيما يقرب من عشر سنوات، وهو الأول من أربعة أجزاء، تتناول العلاقة التاريخية الشائكة بين الملك والكتابة، أو بين السلطة وصاحبة الجلالة، والتي يلخص حال الملك فيها المثل الشعبي (ولا احبك ولا اقدر على بعدك)، بينما لا يصف معاناة حملة الأقلام معها إلا ما عنون به الكاتب مقدمة كتابه (عذابها كان غراماً)، والكتاب وثيقة لأنه استعرض تاريخ هذه العلاقة في نصف قرن، من عام 1950 إلى عام 1999، ومن خلال عدة أحداث في كل عام لا تختلف في ملابساتها، إلا بقدر ما نقرأ معها دفتر أحوال الملك والكتابة في هذا العام.
خمسة فصول يجمعها سرعة الإيقاع، وسلاسة اللغة، ومتعة الحكي، وتدفق المعلومات، وصخب الأحداث، ولا تتباين إلا بقوة تفاوت الشد والجذب بين مجموعة كبيرة من الكبار حملة الأقلام في مواجهة ملك وأربعة رؤساء، ومع ذلك لن تتمكن من القبض على الكاتب في هذا كله متلبساً بالانحياز لحاكمٍ أو كاتب، أو موقفٍ أو رأي، وهو ما تلمس معه روح المؤرخ الحاضرة دائماً في إبداع محمد توفيق، فالمؤرخ الحق لا يفعل معك سوى أن يضع الأحداث أمامك بتواريخها وملابساتها وأجوائها وشخوصها، تاركاً لك قراءة الدلالات، واستخلاص الرؤى، وهو ما أجاده الكاتب الشاب بحنكة المؤرخين الكبار في هذا الكتاب، وهو العازف منفرداً في مساحة خاصة مضيئة مهموماً فقط بسيرة المهنة وأهلها.
وقصة الصحافة والسلطة في مصر، تلخصها تلك العبارة التي صدرها محمد توفيق عنواناً لكلٍ من فصول كتابه الخمسة، فتصدرت الفصل الأول عبارة لإحسان عبد القدوس يقول فيها: (إن الحكومة هي رئيس التحرير الوحيد في صحافتنا)، بينما جاءت في الثاني عبارة الأستاذ هيكل المختالة: (لا أستطيع أن أنكر أنني استمتعت إلى أقصى حدٍ بكل الضجة التي أثاروها من حولي، شيء ما فيها كان مرضياً لشيءٍ ما فيَ، لعله الغرور)، بينما يتصدر الفصل الثالث الرئيس السادات، والذي عمل صحفياً قبل أن يصبح رئيساً، فتجده يقول: (انتم عايزين صحافة مدرسة مصطفى وعلي أمين في “أخبار اليوم” اللي بتقولك تدخل على الوزير تضرب بابه برجليك.. دي مدرسة لا مؤاخذة ماتنفعش عندنا).
ويأتي يوسف إدريس ليتصدر الفصل الرابع قائلاً: (إن أكبر جهاز شعبيٍ عانى في عصر عبد الناصر والسادات ومبارك هو الصحافة، وستظل صحافتنا تعاني لفترة طويلة، لأنها “اتمرمغت” في الوحل)، أما سلامة أحمد سلامة فيستهل بنا الفصل الخامس متسائلاً: (ماذا يُراد للصحافة في مصر؟ هل نريدها مثل الصحافة في الدول الديمقراطية المتقدمة؟ أم نريدها مثل الصحافة في أنجولا والصومال وهاييتي أو على الأكثر مثل الصحافة في ليبيا والعراق وإيران؟)، ولإنه مجتهد دؤوب مخلص لموهبته وعمله، وضع أمامك محمد توفيق في الختام مرجعياته، قائمة ضمت 100 كتاب تحت عنوان (كتب ملهمة)، وأخرى شملت حوالي 60 مرجعاً تحت عنوان (مراجع)، بالإضافة إلى الإشارة إلى أرشيف الصحف والمجلات، وعدة مقابلاتٍ صحفية.
ونحن نستقبل عاماً جديداً، دائماً ما نراجع أنفسنا، فنجمع ما نحب أن نحتفظ به من ذكريات مبهجة من عام يوشك على الرحيل، لنحمل رصيداً من التفاؤل نستقبل به عاماً يطرق أبوابنا، ولم يكن كتاب (الملك والكتابة)، إلا أحد أهم وأمتع وأجمل ما قرأت في عامٍ مضى، وأحمله معي ضمن رصيدي من البهجة في انتظار عامٍ يأتي، ولأن الشباب والطاقة الإيجابية وجهان لعملة واحدة هي عملة الأمل والتفاؤل، فلابد من الاحتفاء بمن تجتمع فيه وفيما يقدمه قيم عز وجودها، بل وأجد الحماس في هذا الاحتفاء واجباً، حين نعيش مرحلةً انتقالية، نحتاج فيها أشد الاحتياج، إلى استعادة قيمة تواصل الأجيال، وهي إحدى القيم المضيئة في منهج عمل محمد توفيق.