كنتُ قد اتفقت مع صديقي على الصيد ليلة الجمعة، فكلانا أعزب، أنا أعزب حقيقي وأعمل ساعات قليلة في اليوم، وهو أعزب مجازًا إثر اختلافات حادة مع زوجته تركت بعدها المنزل، واتفقت في وسط الأسبوع أن نجعل الخميس في نخب الحرية، نلتهم الكبدة في رمسيس ونتجول كحال “الصيع الحرافيش” في وسط المدينة.
نرشح لك: كيف واجهت إسعاد يونس “خناقات” التوك شو؟
نتسكع تحت مرأى طلعت حرب، نجوب الشوارع ذهابًا وإيابًا دون هدف، وفي بداية السهرة نذهب إلى النيل نصطاد، واتفقنا على أن يأتي هو “بالطُعم” بالتخصص، وأنا سأجلب المسليات وتُرمس القهوة بالتخصص أيضًا، فدائمًا ما كان يقول لي أني أُعد الشاي والقهوة أفضل من “زوجته” بمراحل، لأنني أُعدهم “بنَفَس”.. وغالبًا كُنا نضحك رغم حديثه البائس.
الخميس جاء في الموعد، وسط المدينة ممتلأ عن آخره، كل شيء على ما يرام، وبرنامجنا الذي أعددناه سلفًا يسير على ما يرام، غير أنه في اللحظات الأخيرة قبل التحرك نحو التحرير ومنه إلى النيل، قابلت قريبًا لي صدفة لم أره منذ وقتٍ بعيد، فطلبت من صديقي التحرُك نحو التحرير وتنفيذ باقي برنامجنا اللطيف وأنا سألتحق به، وبالفعل تحرك هو وجلست أنا مع هذا القريب نحو ساعتين نتحدث عن أحوال العائلة وما أصابها وكان يغلب على حديثي الشجَن وهو لا يزال مثقفًا لامعًا ومتحدثًا طلقًا، والأغرب أنه لا يزال متفائلاً كعادته، حتى أن آخر ما قاله لي قبل أن يهم بالانصراف: أليس الصُبح بقريب!
انصرف، وشعرت بالبرد فجأة، يبدو إني شعرت بـ”الونس” من حديثه أكثر من اللازم!
تحركت سريعًا نحو صديقي لكي ألحق به في مكان الصيد الذى عاهدناه منذ سنوات، وجدته أتم كل الاستعدادات بل أنني وجدته قد اصطاد بالفعل مجموعة من السمك الصغير.
_هو أنت لحقت تجهز وتصطاد كمان؟ نفسي أعرف إيه غيتك في صيد السمك الصُغير، يا أخي حرام عليك !
كان السمك لايزال ينبض، هممت أن أُعيده للماء والحياة لكنه لكزني وأخذ الصندوق ووضعه إلى جواره
_أنت بتعمل إيه يا حبيبي، دا تعب وشقى، سيبهم في حالهم وملكش دعوة.
هبت نسمات الهواء العليل فارتفع الصمت قليلاً عن ذي قبل، ورحت أشاهد النيل كأني أراه لأول مرة، رحتُ أتأمل الفنادق والإضاءة الزرقاء المنبطحة على صفحة النيل كأنها قلم حبر يكتب مشهد لفيلم رائع لا يزال قيد الكتابة أو يرسم لوحة بديعة لا يضاهيها إبداعُ آخر.
أعادني البائس الجالس بجواري من سابع سما إلى سابع أرض
_يا عم سيبك من الهبل اللي أنت فيه دا وبص على شمالك، دا اللي يستحق التأمل.
توجهت ببصري على غضض فأنا أعلم مسبقًا ما في الأمر، وجدت شابًا وفتاة في مشهد شديد الرومانسية يميل عليها مثل غصن شجرة يمتص رحيقها ورضاها مرآته ابتسامه تعلو وجهها الذي يشبه قصة قصيرة شديدة الجمال والتكثيف.
عدت بنظري لصديقي وأردتُ أن أُغير مجرى الحديث: هات طُعم من اللي عندك خليني أجرب حظي، فهم للتو ورد بسخط شديد وتكشيرة تلو وجهه: حاضر .. حاضر
أعطاني عُلبة الطُعم أصابتني حالة من التقرف قبل أن أفتحها وكدت اتقيأ فأعادتها إليه بسرعة.
_هتفضل طول عمرك خايب…
فتحت الحقيبة التي بين يدي لأضع شيئًا منها داخل فمي، وجدت مجموعة قطع من كيك الشوكولاتة الذي تصنعه أمي بمهارة، كنت قد جلبتهم خلسة دون أن تعلم عن أمرهم شيئًا
وضعت قطعة داخل فمي واحتسيت رشفة من فنجان القهوة وأخذت نفسًا عميقًا شعرت بعده بتحسنٍ كبير، أخذتُ ما تبقى من قطعة الكيك وضعتها كطُعم وبجهدٍ بالغ ثبتها ولو بشكل صوري، وأرخيت الحبل لكي يصل للماء تحت قدمي فقط، وتركته كم من الوقت لا أدري، يبدو أنني غفوت حتى انتبهت على صرخة صديقي لقد شعر بحركة وثقل في الحبل، قام بسحبه بقوة وسرعة، كانت المفاجأة لم تكن سمكة، بل رواية !
رواية صغيرة 120 صفحة A5 عليها غُلاف مُثير، امرأة بشعر ناعم تنظر بدلال وظهرها عاري تمامًا والنصف الثاني من الغلاف رجل راكع أمامها يرتدى بدلة سوداء أنيقة ووجهه للأرض وعنوان الرواية “السلم والتعبان” الطبعة الثانية عشر وبخط صغير داخل دائرة صغيرة +18
تهلل وجهه وفرح فرحًا شديدًا واحتضنني بعنف.. أخيرًا روايتي الجديدة، الحمد لله…الحمد لله.
أخذتها من يده وفتحتها أُقلب في الصفحات وجدتها بيضاء!