كان النادل مضيافًا لدرجة بعيدة، بداية من استقبالهما بابتسامة عريضة، مروراً بمساعدتهما في اختيار ركن هادئ يليق بشاب وفتاة تفصح أعينهما أن بداخلهما رصيدًا وافرًا من العتاب، وصولاً لاقتراحه أصنافًا من المشروبات لم تكن موجودة بالمينيو بالأساس. طلبَت اسبرسو، طلب مثلها، واقترح النادل أن يتناولا مع الاسبرسو شيئًا ما لم أتبيّن اسمه، لكنه عندما أحضره وجدته يشبه كثيرًا “تشيز كيك”.
كانت لمّاحة لدرجة مكّنتها أن تدرك أنه لا يحب الاسبرسو، تعبيرات وجهه أوحت لي بذلك، وإن كان قد سعى لإخفاء ذلك عنها. أكاد أجزم أنه لا يحب الاسبرسو، روَت لي عندما زارتني بعيادتي للمرة الأولى، أنه مغرمٌ بأن يشاركها كل ما تحبه، أظنُها الآن عادت بخيالها ليوم حدّثتني عنه في ذات الزيارة، عندما كانا يتناولان مع بعضهما وجبة من الكشري بإحدى المحال الجديدة على سبيل التجربة، كانت تعشق الشطة، وكانت كلما وضعت لنفسها وضع لنفسه مثلها، حتى ضبطته ممتعضًا بعدما التهم ما يزيد عن نصف الطبق، فسألتَه: “إنت ما بتحبش الشطة؟” فأجابها: “الحق ولا ابن عمه؟ قالت: “الحق”، قال: “أنا مبحبش الكشري أصلاً”.. فانفجرا في الضحك، قبل أن يصر أن يكمل معها الكشري حتى آخره. تعبيرات وجهه أثارت فضولي كإنسان، قبل أن أكون طبيبًا نفسيًا، هي تظن أنه يعاني من حزمة من الأمراض النفسية، لذلك أبلغتني بموعد ومكان اللقاء، وطلبت مني أن أراقبه أثناء الجلسة لأحدد إن كان مريضًا أم لا.
بدا لي أنه شخص منظّم لدرجة تقف به على حافة المرض، أمامه نوتة، يدوّن بها نقاط أثناء حديثها، سألها: “إيه أكتر حاجات بتضايقك فيّا؟” وتركها تجيب وبدأ التدوين. عيناه اليقظتان، أنفه المنتفخ، عروق جبهته النافرة، وحركة يده المتحفزة أثناء تدوين ملاحظاته على إجاباتها، كل هذه الأشياء أوحت لي أنه لم يسألها لكي يدرس إجاباتها ويغيّر من نفسه ليرضيها مثلما يفعل كل مرة، كما أخبرتني، أظنه اليوم يدون تلك النقاط ليستخدمها في شيء آخر قد أعرفه منها بعد نهاية اللقاء. لم يشأ الله أن أنتظر لنهاية اللقاء، بدأ تفنيد كل ما قالت، وأضاف نقاط تحفظها على تصرفاته التي صرحت بها منذ قليل، على تحفظاتها التي أخبرته بها في اللقاءات السابقة، وكأنه يكشفها أمام نفسها أنها تعترض على الشيء ونقيضه، وأن لا شيء يرضيها، وهنا فهمت لماذا كان يدوّن.
بدأت علامات التوتر تفترش وجهها، قامت مسرعة، اتجهت لدورة المياه، وضع رأسه بين كفيه وجلس ينتظرها، رفع رأسه بعد دقيقة تقريبًا، أطال النظر للسقف، ثم أغمض عينيه، أظنه يدرس قرارًا مهمًا، سكونه يوحي لي أنه توصّل لقرار بالفعل، شخصيته التي رسمَتها هي لي، قد تُـقرر الآن الاعتذار لها ومصارحتها بأنه حاول أن يقسو عليها لتشعر بخطئها وتقصيرها في حقه ولكنه لم يستطع. خرجت من دورة المياه، وقف مسرعًا، سحب الكرسي الخاص بها ليساعدها على الجلوس، ابتسم واستأذنها ليذهب هو لدورة المياه. ارتفعت ثقتي بنفسي كطبيب يراقب حالة عندما تصرف هذه التصرفات، شخص يهبط من جبل غضبه ليقف لحبيبته ويسحب الكرسي ليساعدها على الجلوس ثم يبتسم لها، هو شخص -حتما- سيفعل ما تنبأتُ به.. سيعتذر.
أثناء تواجده بدورة المياه، سحبَت النوتة الخاصة به، وأمسكَت القلم وكَتَبَت شيئًا ما، سَمِعت صوت باب دورة المياه، وَضعَت القلم داخل النوتة وأغلقتها وأعادتها إلى مكانها. وقف أمامها وقال: “أنا آسف”.. ابتسمتُ وشعرتُ بالفخر، قبل أن يكمل عبارته: “لإني طول الوقت ده مفمهتش إن تجاهلك ليا وتقصيرك ف حقي.. رسالة بتطلبي مني خلالها إني أخرج من حياتك.. بجد أنا مش عارف إزاي جيت على نفسي كل ده؟.. لو كنتي بتحبيني بجد مكنتيش هتستحملي تشوفيني تعبان.. بعد إذنك أنا بره حياتك.. لحد ما تقرري هتختاريني ولا هتختاري تعنتك وعنادك”.
نظرَت له باشمئزاز وانصرفت بعد أن نظرَت تجاهي وكأنها تقول لي: “أهو طلع مريض زي ما قولت لك”.. جلس ولم يحاول اللحاق بها كالعادة. وضع رأسه بين كفيه مرة ثانية، انفجر في البكاء، اقتربتُ منه، جلستُ بجواره، نظر لي وقال : ” شفت يا دكتور؟ قلت لك إمبارح إنها اتعودت إني أسامح بدون شروط، وأي مقارنة بيني وبين أي حاجة مش هتكون في صالحي، خيّرتها بيني وبين عنادها.. اختارت عنادها وسابتني ومشيت”.. ثم واصل البكاء. دفعني الفضول أن أفتح النوتة على الصفحة التي كتبَت عليها وتركت القلم بداخلها، فوجدتُ عبارة: “بحبك يا حمار افهم بقا”.. رفعتُ رأسه بيدي، وأشهرت العبارة أمام عينيه بيدي الثانية، التقط أنفاسه، بدأت عيناه تسترد ما نضحت من دموع، وأخرج هاتفه من جيبه، اتصل بها بسرعة.. لكن عبارة “الهاتف الذي طلبته ربما يكون مغلقًا” كانت تصل إلينا بوضوح.. كرر المحاولة بلا جدوى.. ثم واصل البكاء مجددًا..