إيمان مندور
“العفوية والفكاهة والطيبة”.. ثلاثة إذا اجتمعن في شخص ما، وجد فيهن دربًا سريعًا لمحبة الآخرين وإقبالهم عليه، لا سيما إن كان هو الآخر مقبلًا على الحياة بمن فيها، ومتقبلًا لكل ما فيها من تناقضات وانهزامات غير عادلة أحيانًا.
الفنان الراحل شفيق جلال كان نموذجًا ينطبق عليه المعنى السابق ذكره، إذ اشتهر بتلك الصفات في حياته الشخصية والفنية على حد سواء، فأصبح “حالة خاصة” لا تزال ذكراها تتجدد حتى الآن، رغم رحيله عن عالمنا قبل 18 عامًا في مثل هذا اليوم من العام 2000.
مطرب الورشة!
البداية تعود لمنتصف يناير 1929، وتحديدًا في حي الدرب الأحمر بالقاهرة، حينما استُدعي الطبيب لحالة ولادة متعثرة كادت الأم تفقد روحها فيها من الألم، والطفل وُلد ضعيفًا، فأخبرهم الطبيب أن هذا المولود إذا مر عليه أسبوع فسيعيش، مطالبًا إياهم بأن يطلقوا عليه اسمه إن قُدَّر له الحياة، وبالفعل نجا الطفل من أزمته المرضية، ونفَّذوا رغبة الطبيب، فكان “شفيق” الولد الوحيد لأب يدعى جلال عبد الله حسين البهنساوي.
نرشح لك: مديحة كامل.. رابعة العدوية من القمة إلى الاعتزال
كبر الطفل عامًا بعد عام، ومع كل تقدم في عمره كان يشعر بأن صوته حسنًا وأنه يحب الفن صدقًا، فكان لا يمل من الغناء والرقص، حتى إنه كان يفعل ذلك في مدرسته وبين زملائه داخل الفصل، فغضب المعلمون وخرج من المدرسة في سن صغيرة ولم يكمل تعليمه، وعمل في إحدى ورش صناعة الأحذية، ولحسن صوته كان رفاقه يطلقون عليه “مطرب الورشة”.
تأثر شفيق جلال منذ صغره بالموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، وكان يحفظ أغنياته عن ظهر قلب، ويدندنها مع نفسه لشدة تعلقه بفن “عبد الوهاب” في مجمله، إلى أن واتته الفرصة في صباه عام 1940، ودعاه رفاقه بالورشة ليُحيي حفل زفاف في إحدى القرى التابعة لمحافظة الجيزة، فوافق، وفوجئ هناك بوجود فرقة موسيقية فشاركهم الغناء وأشاد به الجميع، ومنذ تلك الليلة اتجه لإحياء الأفراح و”الليالي الملاح” كما كانوا يطلقون عليها وقتها.
خطابات التعارف
بعد سنوات من انشغاله بإحياء الأفراح، أرسل “شفيق” لمجلة فنية تعلن عن تعارف بين الشباب العرب، وكتب فيها: “المطرب الشعبي الصغير شفيق جلال يريد التعارف بشباب العرب”، وما إن مر أسبوع واحد حتى انهالت عليه مئات الخطابات من شباب في مختلف أنحاء الوطن العربي، كان أغلبهم يتساءلون عن فنه ولماذا لم يسمعوه من قبل في الإذاعة أو يشاهدوه في السينما، فرد عليهم والده بأنهم إذا أرادوا رؤيته فليرسلوا إلى مصطفى رضا رئيس الإذاعة والسيدة أم كلثوم والموسيقار محمد عبد الوهاب.
وبالفعل ظلت الإذاعة المصرية لفترة طويلة يصلها يوميًا مئات الخطابات التي تسأل عن المطرب شفيق جلال، “وهما أصلا في الإذاعة لا يعرفوا مين شفيق جلال ولا مين شفيق عمر، ولا عمرهم سمعوا عن حد بالاسم ده” على حد تعبير الفنان الراحل في أحد حواراته الإذاعية.
ذات مرة وأثناء تواجده في أحد المقاهي في روض الفرج، مازحه أحد رفاقه وأخبره أن الفنان محمود ذو الفقار وزوجته المنتجة والفنانة عزيزة أمير كانا يسألان عنه في شارع مجاور قبل قليل، فذهب ولم يجدهما، ولم ينم في ليلته من التفكير في سبب قدومهما إليه، حتى توجه في صباح اليوم التالي إلى الإذاعة وقابلهما، فقالا له: “يا بني إحنا ولا نعرفك ولا شوفناك قبل كده، ومروحناش سألنا عنك في حته”.
لكن مدير الأستوديو في الإذاعة طلب منهما أن يسمعوه و”كده كده مش خسرانين حاجة”، لا سيما وأنه كان يقلد الفنان محمد الكحلاوي وقتها ببراعة، وبالفعل غنى أمامهم في الإذاعة، فما كان من السيدة عزيزة أمير إلا أن أعجبت به بشدة قائلةً: “يا روحي.. فين إنت من زمان”.
التقليد والإذاعة
بعدها تعاقد شفيق جلال على 3 أفلام، وعندما أذيعت أغاني فيلم “عودة طقية الإخفا” عام 1946 التي شارك فيها، كانوا يقدمونها في الإذاعة كالآتي: “غناء محمود شكوكو وشوقي أحمد وجلال شفيق”، فغضب والده وقال له: “روح يا بني صلح الاسم اللي شقلبوك فيه ده”، فتوجه الابن على الفور للإذاعة ليستدركوا الخطأ الذي وقعوا فيه، فالتقى مصطفى رضا على سُلَّم الإذاعة، وما إن رآه الأخير حتى أمسكه من يده وأخذه مسرعًا إلى مكتبه وأغلق عليه الباب، فبكى “شفيق” من خوفه قائلاً: “يا بيه والله ما عملت حاجة”.
لكن “رضا” كان منشغلا بإجراء مكالمة هاتفية لحافظ عبد الوهاب قال له فيها: “يا أستاذ حافظ.. شفيق جلال اللي قالب لنا الإذاعة عندي”، فحددوا له بعدها موعدًا للامتحان، وكان أول ظهور إذاعي له في 3 مايو 1946، كان يقدم خلاله وصلتين غنائيتين، إحداهما في الصباح والأخرى في فترة الظهيرة.
العندليب و”الصبر”
“أنا آه مغني شعبي بس موهبة الصوت ملهاش سكة واحدة.. يعني مفيش مغني شعبي ومفيش مغني عاطفي.. كلها مقدرة ربانية صوتية، الصوت الحلو قادر على إنه يؤدي كل لون في الغناء”.. هكذا كان شفيق جلال يرد على سبب احتراف اللون الشعبي من الغناء، معتبرًا أن من ينجح في لون من الغناء يمكنه النجاح في غيره ما دامت موهبة الصوت موجودة.
أما شهرته الحقيقية فبدأ توهجها في إحدى حفلات عبد الحليم حافظ عام 1961، حينما تأخر العندليب في ارتداء ملابسه والخروج إلى المسرح، فلم يكن هناك حل أمام منظمي الحفل سوى الاستعانة بمغني مغمور كان متواجدًا في المكان وقتها، ليقدم فقرة غنائية ريثما ينتهي “عبد الحليم” من تجهيزاته. فصعد “شفيق” إلى المسرح، وقدَّم “موال الصبر” لأول مرة، وسط تفاعل شديد من الجمهور ومن العندليب نفسه الذي أبدى إعجابه به.
ذاع صيت شفيق جلال وعُرف بين صنَّاع الفن وجمهوره، فشارك في العديد من الأفلام، أشهرها “حكايتي مع الزمان”، “خلي بالك من زوزو”، “الآنسة حنفي”، “ريا وسكينة”، “شلة الأنس”.
كما قدَّم عشرات الأغاني التي لا يزال لها قدر كبير من الشهرة حتى يومنا هذا، بل ومرتبطة بأداء وصوت شفيق جلال دون غيره ممن غنوها بعده، فكان الحديث عنه دومًا يتطرق لأغنيات “شيخ البلد” و”موال الصبر” و”يا عم يا صياد”.
“أمونة بعتلها جواب”
أما الأغنية الأبرز طوال مسيرته، فكانت “أمونة”، ليس لكلماتها وصوته فحسب، بل لطريقة تأديته لها أيضًا، والتي قدمها بطريقة ساخرة عفوية، حتى أنه ظل يقدمها في أغلب حفلاته حتى وفاته، ويطلبها منه الجمهور وإن لم يكن مستعدًا لتقديمها أحيانًا، وهو ما حدث في إحدى حفلاته بدار الأوبرا، وأثناء الأغنية تعامل بعفوية شديدة، وقال: “يااني يااني.. مش عاملين بروفة يااني”.
“أمونة” لم تكن مجرد أغنية يتم تقديمها بطريقة فكاهية، بل ارتبطت بشدة بأداء شفيق جلال، لذا لم يقدمها أحد بنفس نجاحه فيها، فمن الصعب أن تسمعها دون أن تتخيل حركاته وتعبيرات وجهه الشهيرة خلالها، لكن رغم ذلك استخدمها البعض لإسقاطات واقعية ترمز لتجاهل مطالب الرعية، فـ”أمونة” لا ترد على مطالبهم و”جوابتهم”، فيفيض الكيل ويقول “شفيق” في نهاية الأغنية بصوت أجش: “على كيفك واه.. إن شالله مرديتي عليا يا أمووونة”.
رحل شفيق جلال في 15 يناير من العام 2000 عن عمر 71 عامًا، تاركًا خلفه “عفويته وطيبته اللي كانت بتوديه في داهيه” كما وصفته شقيقته، وأغنياته التي ارتبطت بأدائه قبل صوته، وكذلك “أمونة” التي اقتصر جمالها على صوته الساخر في “جواباته” إليها.. دون غيره.