كطائر العنقاء عاد سائرا على مسار “النفرى”، أنه لتمام الظهور لابد من غياب. هل كان الغياب اختياريا أو إجباريا هذه مسألة أخرى، فهو بطبعه الضوضائى ينسحب فى هدوء شديد!، لا صياح هناك ولا استشهاد وإنما كمون استراتيجى يعتمد على نبع لا يجف من الموهبة المتعددة لا يعرف أحد كيف تظهر فى المرة القادمة. هو الصحفى الذى عمل فى روز اليوسف، وأصدر صحيفة الدستور معلنا أن الجديد ممكن فى عالم الصحافة، وظهر فى عوالم التليفزيون فى برامج تحت أسماء متعددة، وكتب الروايات الصحفية كثيرا ولكنه جاء روائيا متمكنا فى “رحلة الدم”. وإذا كان التنبؤ ممكنا فإنه سوف يكتب الشعر يوما، وعلى الأرجح أنه سوف يمثل فى السينما لكى يكتمل له فى الشكل والمضمون تلك الموهبة الجبارة التى عاشها صلاح جاهين يوما والتى تتدفق منها روح إنسانية تأخذ أشكالا متعددة، وتستخدم وسائط مختلفة، ولكن الجوهر فى الأول والآخر واحد.
نرشح لك.. تكريم نجوم الفن في “أوسكار الشرق الأوسط” بدار الأوبرا
الموهوب إبراهيم عيسى جاء مرة أخرى إلى تليفزيون “أون” فى برنامج تليفزيونى “حوش عيسى”، ولا يمكنك أن تعرف ماهيته من العنوان لأنه لا يعرف “الحوش” إلا أهل الريف، وهو المكان المتسع أمام “الدار” الذى يصلح لكل شىء فى السراء والضراء ولعبة كرة القدم و”الحوكشة” ولعب الكبار والصغار وكل ما لا تتسع له البيوت ذات الحرمة. هذه المرة يأتى دون خطاب زاعق يمتد طوال الساعة التى يسمونها فى الرطانة التليفزيونية “إنترو” أو مقدمة والتى تحولت لديه فى برامجه الأخيرة إلى منصة سياسية ممتدة إلى ساعة أو بعض ساعة كان مكانها الحقيقى فى حزب من الأحزاب، حيث الدفاع والهجوم والمناكفة إذا لزم الأمر. هنا تنتصر الفنون التليفزيونية الحقة التى يتقدم فيها الموضوع لكى يلح على المستمع المشاهد، ورغم ذلك لا يختفى المقدم إبراهيم الذى يأتى لك متهاديا فى رسوم متحركة مرحة وجذابة لكى يقدم ويمهد صوتا وصورة لموضوعات معقدة حتى تبدو بسيطة وممتعة للغاية، وتبقى فى عقل المشاهد تطرح أسئلة عظمى.
فى الحلقة الأولى اختار ثلاثة موضوعات: “المنايفة”، وفيلم “الزوجة الثانية”، والسياسة والرياضة. لا يوجد فى الظاهر ما يربط هذه الموضوعات اللهم إلا إذا كان “الحوش” هو الذى يحتويها جميعا، هى ساحة للفرجة والتأمل والعجب. ولكن ذلك ليس هو الحال مع الموهوب الذى يخرج من العباءة الفاضحة للسياسة، ولو مؤقتا فلا أحد يعرف كيف سيكون عليه حاله فى صحيفة أو برنامج أو كتاب آخر، ويدخل فورا إلى ما تحت تلابيبها من وشوشات، وترنيمات، وتشبيكات لا تراها ولكنها واقعة، وكل ما نحتاجه أن نرفع الغطاء عنها، ويوما ما سوف نضع كل القطع مع بعضها البعض فإذا هى كلها أغنية عاشقة فى حب الوطن. لم يكن “المنوفى” يتحدث عن المنوفية كوطن ولد هو فيه شخصيا فى قويسنا، وإنما كحالة كونتها ظروف موضوعية اقتصادية واجتماعية، وهى تقول إذا اقتربنا جيدا فسوف نجد ذات الثراء فى ٢٦ محافظة أخرى. نحن نعرف الكثير من الكليات عن القاهرى ابن البلد، والسكندرى والبورسعيدى الساحلى، والأسيوطى والقناوى الصعيدى، والقبائلى البدوى السيناوى، ولكنها كلها تفريعات نعرفها عن المصرى الذى هو الآن أكثر غنى لأن كل التفريعات تحتوى بعد ذلك على ما لا عين رأت وأذن سمعت من تفاصيل ميكروسكوبية ثرية.
ولا كان الحديث عن فيلم الزوجة الثانية فقد فعل ذلك من قبل فى تحليل شامل فى برنامج كان فى قناة “أوربت” قبل سنوات، ولكنه فقط اكتفى بالمقدمة، وأصل الحكاية من الراوى على “البيانولا” لكى يدوس على الطغيان ويستشف مواطن القوة فى “مكر” أنثى مصرية.
“الحدوتة” فى الأمر كله لا تدرى فى النهاية هل هى للفيلم أم لإبراهيم عيسى الذى توحد مع الموضوع منبهرا بالعبقرية والجمال الفنى والإنسانى مع لمسة ونكهة مصرية لا تخطئها عين ولا أنف. الحالة السياسية بعد ذلك ليست فى استعادة حادث “الإرهاب” فى دورة ميونيخ الأوليمبية، ولكنه أولا مراجعة لموقفنا من الإرهاب الذى لبس أردية راحت تطاردنا حتى اليوم فى اليقظة والمنام، وثانيا فى دور مصرى إنسانى فى المفاوضات قام به رئيس البعثة الرياضية المصرية، أخطأته العيون ربما خوفا من الاتهام بالتطبيع. فى كل الحالات كان التاريخ ملحا بشدة على الحاضر، ولم يكن الموهوب يحتاج إلحاحا لفظيا على قضايا هامة، ولكن الصورة والصوت أو التليفزيون كان يقوم بالمهمة التى، وأرجو ألا أكون مبالغا، ربما تقدم فتحا جديدا للصحافة التليفزيونية يبشر بثورة وثروة فى “المحتوى” تبحث عمن ينقب عنها!.