أحمد شعبان
لم يكن يدرك وهو طفل صغير، يتنقل بين حلقات الذكر، ويتردد على موالد أولياء الصعيد “أبو الحجاج الأقصري، جلال الدين السيوطي”، يستمع إلى المدّاحين، يدندن بينه وبين نفسه بمدح الرسول الكريم، ويحفظ أشعار البوصيري و”سلطان العاشقين” عمر بن الفارض، أن يُصبح في يومٍ من الأيام “إمام المّداحين وسيّدهم” و”شيخ المُنشدين وأشهرهم”، يتربع بعذوبة صوته على عرش الابتهالات والتواشيح الدينية.
نرشح لك: عمر الحريري.. أول ممثل على التلفزيون المصري
“صوت السماء الفريد، إمام المدّاحين، كروان الابتهالات الدينية، قيثارة السماء، لحن السماء، صنايعي الإنشاد وتواشيح الفجر كما وصفه عمر طاهر.. “، قُل عنه ما شئت، إنه الشيخ سيد محمد النقشبندي الذي تحل ذكرى وفاته اليوم الموافق 14 فبراير، لذا يسلط “إعلام دوت أورج” الضوء على جوانب من سيرته ومسيرته العطرة.
عاش الشيخ سيد النقشبندي، زاهدًا في حياته، لم يكن يحب الشهرة أو جمع الأموال، إنما كان “يذوب عشقًا في فى الوصول والاتصال بالمديح الذى كان يربطه برب السماء”، تلمس ابتهالاته قلبك، فترقّ لها، تحملك إلى بحور وعوالم الصوفية، فتسبح معها في ملكوت الله. قال عنه الدكتور مصطفى محمود أنه ” مثل النور الكريم الفريد الذى لم يصل إليه أحد”.
في محافظة الدقهلية عام 1921، ولد الشيخ سيد النقشبندي، ونشأ في رحاب عائلة صوفية، فقد كان والده الشيخ محمد النقشبندي هو شيخ الطريقة النقشبندية، حفظ القرآن الكريم، وتعلم الإنشاد الديني في حلقات ذكر الطريقة النقشبندية، انتقل من محافظة الدقلهية إلى مدينة طهطا في صعيد مصر، حيث تربّى في واحة من واحات السالكين، وفي منتصف الخمسينيات، رأى الإمام البدوي في المنام يدعوه ليكون إلى جواره؛ فإذ به في اليوم التالي يشدّ الرحال إلى طنطا حيث يقيم شيخه.
استقر به المقام في طنطا، في منزل تطل شرفته على مسجد السيد البدوي، عشرة أعوام قضاها في رحاب مسجد البدوى، يلمس الونس والدفء إلى جواره. هناك، بدأ صوته يجذب المريدين والمحبين، واتّسع صيته من الدلتا حتى القاهرة، وفي عام 1966 ذهب “النقشبندي” لإحياء مولد الإمام الحسين، هناك استمع إليه المذيع الشهير حينها أحمد فراج، وسجّل معه بعض الابتهالات الدينية لبرنامج “في رحاب الله”، من هنا بدأت مسيرته عبر الإذاعة، فسجل أدعية دينية لعدة برنامج إذاعية وتليفزيونية.
يا رب كرمك علينا.. يارب نصرك معانا
ونظرة بعطفك تثبت خطانا
يقول ابنه أحمد في حوار له مع خيري حسن بـ”الوفد”: “أذكر فى حفلات الإنشاد التى كان يذهب إليها، وكنت أحضر معه، أننى كنت أرى مريديه يبتهلون ويبكون ويهتفون معه من قلوبهم لله وللرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، ودموعهم تتساقط، وأجسادهم ترتعد من حالة التجلى التى كانت تخرج من حنجرة الشيخ”، وفي كتابه “صنايعية مصر” ينقل عمر طاهر على لسان ابنته: “الشيخ سيد كان هايم في حب الله ومش مشغول بالدنيا.. الشيخ سيد هو اللي أحيا جنازة أبو الرئيس السادات، بعدها السادات جابه في ينشد فرح بنته، بعدها قالهم احبسوا النقشبندي وبليغ مع بعض لحد ما يطلعوا حاجة، فكانت مولاي إني ببابك”.
“مَوّلاي إنّي ببابك قَد بَسطتُ يَدي، مَن لي ألوذ به إلاك يا سَندي؟ أقُوم بالليّل والأسّحار سَاهيةٌ أدّعُو وهَمّسُ دعائى.. بالدموع نَدى.. بنُور وجهك إنى عائد وجل، ومن يعذ بك لَن يَشّقى إلى الأبد.. مَهما لقيت من الدُنيا وعَارضها فَأنّتَ لي شغل عمّا يَرى جَسدي”.
أحب الرئيس الراحل محمد أنور السادات، الشيخ سيد النقشبندي، جمعتهما علاقة صداقة، وفي خطبة ابنة السادات عام 1972، بحضور مجموعة من مثقفي وفناني مصر، ذهب السادات إلى بليغ حمدي، سلّم عليه وهمس في أذنه: ” نفسي أسمعك مع النقشبندي”، وكلف الإعلامي وجدي الحكيم بأن يجمعهما في استديو واحد. تعجب “الحكيم” من ذلك الللقاء الغريب، وافق “النقشبندي” محرجًا وقال للحكيم: “ما ينفعش أنشد على ألحان بليغ الراقصة.. على آخر الزمن يا وجدي هغنّي؟”.
https://www.youtube.com/watch?v=E1MWKqsmz-I
حكى “الحكيم” في حوار إذاعي تفاصيل ما حدث قائلًا: ” اتفقنا أن أدخل عليهما بعد نصف ساعة، فإذا وجدت النقشبندي خلع عمامته؛ فهذا يعنى أنه أُعجب بألحان بليغ، وإن وجدته ما زال يرتديها؛ فيعني ذلك أنها لم تعجبه، فأتحجج بأن هناك عطلاً في الأستوديو لأنهي اللقاء ونفكّر بعدها في كيفية الاعتذار لبليغ”، يضيف: “”دخلت، فإذا بالنقشبندي قد خلع العمامة والجبة والقفطان، وقال لي: يا وجدى بليغ ده جنّ”.
انتهى اللقاء بخروج “مولاي إني ببابك” من ألحان بليغ حمدي، وكتب كلماتها الشاعر عبد الفتاح مصطفى، وتعاون “النقشبندي وبليغ” في عدة أغاني أخرى منها: “مولاي إني بباك، والساهر، وبدر الكبرى، وأخوّة الحق، ويا دار الأرقم، وأقول لأمتي، أشرق المعصوم، أنغام الروح”. كما غنّى النقشبندي لملحنين كبار مثل محمد الموجي، سيد مكاوي، حلمي أمين، إبراهيم رجب، محمود الشريف وأحمد صدقي.
“وردة كانت بتعشق الشيخ سيد، ولمّا قابلها في مرة عند بليغ وقال لها بنتي ما بتسمعش غيرك لقيناها بعد يومين داخلة علينا البيت في طنطا وقضت معانا اليوم”، “الشيخ سيد لما يكون رايق كان يقعد يغنيلنا لايق عليك الخال بتاعة عبد الحليم”.. تقول ابنتة الشيخ سيد، حسب ما جاء في “صنايعية مصر”.
في حوار قديم له، مع الإذاعى الكبير طاهر أبو زيد، أبدى الشيخ سيد النقشبندي إعجابه وطربه بأداء كوكب الشرق السيدة أم كلثوم، وقال إنها أحب المطربات إلى قلبه، ليطلب منه “أبو زيد” إنشاد أحد أعمالها ليختار مقطعًا من قصيدة “سلو قلبى”، كما جمعتهما بعد ذلك صورة شهيرة داخل ساحة مولاى “أحمد البدوى” فى طنطا، ورحل الشيخ النقشبندي في عام 1976، بعد عام واحد من رحيل أم كلثوم.