محمد حسن الصيفي
أجلس أمام الشاشة، فواصل إعلانية مُتعاقبة، موسيقى يبدأ بعد انطلاقها صوت جهوري قوي، التفت أجد صورة لتدريبات قواتنا المُسلحة، يظهر على الشاشة “قالوا إيه بصوت كتيبة 103 الصاعقة المصرية” هنا اعتدلت في جلستي بالكُليّة.
نرشح لك.. قصة نشيد “قالوا إيه علينا دولا”
“قالوا إيه علينا دولا وقالوا إيه..”
شيئًا ما يتحرك بداخلك وأنت تقترب لهذه الصيحة، انبهار بجرحٍ عميق، شيئًا ما في هذا الكون أصبح قادرًا على تحريكه، هذا الصوت الهادر هو الذي فعلها دون أن يقوى عليها أساطين الطرب والغناء.
بعدها ننتقل في الثانية 35 للحجر الثاني في بحر الشجن.
أحد أيقونات الجيش المصري وأبطاله والذي استُشهد في رفح في هجوم إرهابي على نقطة إرتكاز أمني بالمدينة، الصورة موفقة لحدٍ بعيد، بعيد جدًا ..
“منسي بأه اسمه الأسطورة، من أسوان للمعمورة”
“شبراوي وحسنين عرسان، قالوا الموت ولا يدخل مصر خسيس وجبان”
“خالد مغربي دبابة، بطل وجنبه إحنا غلابة … وقالو إيه”
“العسكري على م الشجعان، مات راجل وسط الفرسان .. وقالوا إيه”
تنتهي الملحمة ولا تعود أنت لما قبلها، تغرق في الصمت، وتنسكب حبات الدموع على وجنتيك بجلال وحياء، يتكرر الأمر كل مرة تصادف فيها هذه اللطشة العبقرية الملحمية، سواء على شاشة التلفزيون أو موقع يوتيوب أو حتى من خلال تصفحك للفيسبوك، لن تستطيع أن تمررها أو تتركها دون أن تسترسل للنهاية.
لقد امتلكت هذه الصيحة “التي لا أحبذ أن تكون أغنية .. مجرد أغنية” كل مقومات النجاح المجردة، قبل أن تُمعن وتتعمق فيها لكونها أنشودة أو أغنية وطنية فارقة ومختلفة.
والحقيقة هي تليق بالحزن الساكن في صدورنا على أبناءنا من القوات المسلحة وأبطالنا في سيناء وعلى كل الحدود المصرية، لا يجابه عملاقًا إلا عملاق، وهذا الصوت الجهوري عملاقًا فاستطاع وحده تحريك وزحزحه هذا الحزن والشجن المرابط في قلوبنا.
بأبسط إمكانية استطاع أن ينقلك بأحباله الصوتية وكأنها طائرة حربية وضعتك على الجبهة في سيناء، في أقل من ثلاث دقائق تعيش تضحية الأبطال وكأنها ثلاث سنوات، تشعر أنك تقف هناك على أرض المعركة تشتم رائحة المنسي وباقي الشهداء والأبطال الذين ينطبق عليهم مقولة عُمر بن الخطاب رضي الله عنه حين كان يتفقد أرض المعركة بعد انتهاءها فقالوا له مات فلان وفلان وأناس لا نعلمهم، فبكي وقال: لكن الله يعلمهم.
وأنا وإن كُنتُ أُعرّج على تقديم تحليلات لبعض الأعمال الفنية هنا في إعلام دوت أورج، أجد نفسي متحرجًا من تقديم هذا التحليل أو التفكير لهذه المقطوعة الفنية، فلا يليق أن تقوم بتشريح هذه المساحة المهيبة التي حركت كل الأحزان الوطنية المدفونة دفعة واحدة.
غير أني أرتأيت أنه من الضروري فهم أسباب نجاح هذه الأغنية دون غيرها من وجهة نظري المتواضعة لعل وعسى ..
1.في البداية الأغنية من إنتاج شركة راديو النيل، بفكرة ورؤية فنية لوليد رمضان الرئيس التنفيذي للشركة.
2.الأغنية تعيد لون من ألوان الغناء التي اختفت من أعوام طويلة، وهي “النشيد” أو الكورال، وهو ما كان موجودًا منذُ العشرينات، حيث لم يكن لمصر أغنية أو موسيقى على النظام الحالي بل كان نشيدًا، بالتحديد منذ عام 1923 إلى 1936 من خلال نشيد “أسلمي يا مصر” كلمات الشاعر والأديب مصطفى صادق الرافعي وتلحين صفر علي، لا نضع هنا مقارنة بين هذه وتلك، لكن اللون نفسه أو الفكرة التي تعيد صوت النشيد أو المجموعة أو الكورال للأذهان والأجيال الجديدة مما قد يساهم في عودة هذا اللون الوقور القوي لعالم الأغنية الوطنية
3.السؤال الأهم: لماذا نجحت الأغنية دون مطرب شهير أو شاعر كبير أو..؟
الأغنية نجحت لأنها بسيطة، منّا وإلينا، دنت من المصري دون تحزلق أو “تُقل دم” أو مبالغات سمجة تخرجها من إطار حب الوطن إلى إطار النفاق والكذب والذي لا ينطلي بحال من الأحوال على الناس، فالناس لهم قلوب وآذان أهم وأذكي من الذين يقدمون الأعمال الفنية.
_الأغنية في أهم عناصرها قدمها صوت جهوري من قلب الحدث، كما ذكرت صوت ينقلك بهليكوبتر أو مروحية لأرض المعركة … الاختزال في أسمى معانيه.
4.العنصر الذي لا يمكن أن نغض عنه الطرف هو الكلمات، الكلمات جاءت بسيطة، بسيطة للغاية فلذلك نجحت وستمكث طويلاً على ما أظن مع المصريين الذين لا يحبذون التقعر والكلمات العميقة والمتحذلقة، كما أن الكلمات تحدثت عن شهداء وأبطال الجيش المصري وأبناءه وليس عن السلطة أو الرئيس فكانت صادقة لأبعد حد.
5. الأغنية قدمت أربعة نماذج حقيقية وواضحة ومباشرة وصريحة لأبطال القوات المسلحة “المنسي، شبراوي وحسنين عرسان، خالد مغربي، العسكري علي”
والتكريم الذي جاء من أحد أصوات رجال الصاعقة هو التكريم المناسب فلا “بهرجة ولا تنطيط ولا رقص” الجدية كانت كاملة هنا ولذلك النجاح منطقي، بعكس ما تم تقديمه في السنوات السابقة من أغنيات تحسب وطنية من فرط الحركة والموسيقى نسمعها في الأفراح والمعازيم تقوم بالرقص عليها.
6. أصدق ما قيل عن هذه الأغنية جاء من أحد التعليقات لأم مصرية على مواقع التواصل الاجتماعي “أغنية توجع القلب” وهي بالفعل كذلك، رحم الله الشهداء وعاش رجال الجيش المصري دائمًا وأبدًا رجال
https://www.youtube.com/watch?v=lmD7XD9SXZU