خالد عبد العزيز
نادراً ما تتطرق الأفلام الرومانسية إلى مشاكل وتعقيدات العلاقة بين الطرفين، دوماً نجدها تختار الطريق الأيسر، وهو مناقشة العلاقة من بعيد، فقط ما نراه قشور، أما الباطن بجانبه الأعمق الذي يغوص في دهاليز النفس، يبدو غير مطروقاً بكثرة، من هذه النقطة الشائكة نجد فيلم Phantom Thread أو “خيط وهمي” سيناريو وإخراج “بول توماس أندرسون” يشق تلك النقطة دون مواربة. علاقة الحب من الداخل، واحتياجات كل طرف ورؤيته للآخر ولذاته التي تتوق للانصهار المحموم في أتون المحبوب حتى وإن بدا غير ذلك.
نرشح لك: مروى جوهر: تحويل “يحدث ليلاً في الغرفة المظلمة” إلى فيلم
“رينولدز وودكوك” ( دانييل داي لويس ) مصمم ملابس أرستقراطي، زبائنه من العائلة المالكة والأميرات، يقع في حب “ألما” (فيكي كريبس) النادلة التي قابلها صدفة في أحد المطاعم، لتبدأ بينهما قصة حب قوية، يشوبها الصراع بين رؤية كل منهما للحب.
وودكوك.. ألما
يبدأ الفيلم بمشهد نرى فيه “ألما” وهي تروي للطبيب “هاردي” قصة حبها لرينولدز، لنجد أن الفيلم يبدأ بداية سريعة تُدخلنا في صميم الأحداث، ومُعبراً بتلك الكلمات عن طبيعة العلاقة بينهما، باعتبارها المحور الرئيسي للسرد. قصة حب ليست سلسة أو عادية بأي حال من الأحوال، يطمر بداخلها صراعاً مكمنه النفس وما بها من نتوءات وفجوات، ومن قبل ومن بعد خلفية كل منهما الحياتية.
رسم السيناريو شخصية “وودكووك” بشكل ثري ومحكم، يبدو دقيق، أنيق للغاية، نراه في المشاهد الاولى من الفيلم وهو يحلق ذقنه بعناية ويرتدي ملابسه، ويشذب شعره، ليظهر في النهاية كالبريق من فرط رقته وأناقته، تبدو شخصيته الهادئة أرستقراطية الطابع تحوي ثقة شديدة واعتداداً بالنفس، عالمه لا يحوي سوى عمله الذي يُمارسه بدأب وحب شديدين، مُحاطاً بالنساء بحكم طبيعة عمله، لكن الأهم هو علاقته بشقيقته الكبرى “سيريل” (ليزلي مانفيل)، التي تبدو وكأنها بوصلته التي تقود طريقه، رأيها حازم، تُعامله وكأنها أمه وهو أيضاً ينظر لها تلك النظرة الباحثة دوماً عن أمان لا يجده سوى بالقرب منها.
أما الناحية العاطفية يتعامل مع المرأة كسلعة، يُقرب إليه إحداهن، ثم يزهد فيها ويتركها، ليعود لعالمه الذي يظنه مُكتملاً في ظاهره فقط، لكنه ليس سوى صحراء تفتقد الزرع. لذا ليس من قبيل المصادفة أن يختار السيناريو عند بنائه للشخصية أن تكون مهنتها هي تصميم الأزياء، تلك المهنة التي تكون المرأة هي الركيزة الأساسية فيها، حتى نظن أنه يدور في فلكهن، لكن الواقع أنه بسحره وجاذبيته هن من يدُرن في فلكه.
بالمقابل “ألما” التي تظهر في مشاهدها الأولى مع وودكووك والارتباك بادي عليها تبدو شخصيتها حيوية ضاجة بالحياة، مُحبة لدرجة العشق، لا تدري أن هذا الارتباك هو من سيسقط فريسة له في النهاية، تظهر فجأة في حياته، كالنبت الشيطاني، تأثيرها عليه مُباغت، خاطف، نجده في أحد المشاهد بعد ان اصطحبها لمنزله، وهو يأخذ قياسات جسدها الذي لا يعجبها ليُصمم لها فستاناً، وكأنه يكتشفها ويتذوقها، ويُصالحها على جسدها ونفسها ويجعلها تتقبله وتحبه بعد أن كانت تتشكك في كونه جميلاً.
اختيار السيناريو أماكن الشخصيات ساهم في التعبير عن المضمون، فالقصر الذي يعيش فيه “وودكووك” أشبه بالقلعة، مملكة تخصه وحده ولا تسع غيره، وإذا ولجه أحد ما لن يخرج منه كما كان، وإذا حدث وخرج سيُصاحبه التبدل والتغير بالتأكيد، قلعة هو سيدها وآمرها الذي يملك بيده مصائر من بداخله. وبالتالي حينما تدخله “ألما” الآتية من الريف، لن تخرج منه مطلقاً، لتنتقل منه من امرأة على الهامش إلى المحور والمركز.
شد وجذب
الصراع هنا داخلي أو نفسي، “وودكوك” بتكوينه وتركيبته المُعقدة الذي لا يرغب سوى بنفسه، في مقابل “ألما” المُحبة العاشقة التي تسعى للوصول لقلبه مثلما وصل هو إليها. وبالتالي ينعكس هذا الصراع الداخلي على أفعال وردود أفعال الشخصيات، ففي أحد المشاهد نرى “وودكووك” وهو يُجيب عن سؤال “ألما” عن سبب عدم زواجه، ليجيب في تلقائية بأنه يُصمم الفساتين، فحياته ليس فيها سوى عمله الذي يُشكل عالمه بالكامل، ليستكمل حواره معها قائلاً بأن الزواج سيجعله مُضللاً. لتصبح علاقتها به وعرة، مليئة بالفخاخ التي لا يصنعها سواه. يقترب شيئاً فشيئاً ثم يبتعد فجأة، كأنه لا رابط بينهما، رغم أنه يشعر أنه أفضل وهو في كنفها، لكن عالمه الذي شيده يجذبه نحو نفسه، لينغلق أكثر وأكثر على ذاته. يُرغم إدراكه جيداً أنه يُحبها ولا ملاذ له غيرها.
على العكس نجد “ألما” مُدركة جيداً لحبها له، وتترك نفسها لطبيعتها تنجذب نحوه وتنساق تجاهه، تريد أن تخلق عالماً أخر لا يسع الا هما، مُحيطاً يحوي كل منهما فقط، لذا حبها متوهج صاخب يضج بالحياة مثلها، وفي المقابل هو لا يعتد سوى بنفسه فقط لا يقوده سوى أنانيته المفرطة.
في أحد المشاهد نرى ” ألما ” وهي تُخبر الطبيب بأنه يصبح عذباً للغاية حينما عندما يحتاج للراحة، يُصبح وديعاً كالطفل، لذا تلجأ ” ألما ” للحيلة لاستعادة وودكوك إليها مُجدداً، تستلهم من احدى الكتب وصفة أو تعويذة عشبية تُضيفها للطعام، فيُصاب بالمرض ويُصاحب الفراش وبذلك لا يبقى سواها بجواره، ويشعر بها وبحبها. رغم أن الفعل ذاته قد يحوي قسوة ما، ألا أن دوافعه مُبرره، لا يقودها سوى غريزة الحب. على الناحية الأخرى نجد أن “وودكوك” مُدرك جيداً لفعلتها ومُستسلم تماماً لها، لا توجد طريقة أخرى ليعود بها إليها وينسى ذاته ولو قليلاً. ففي مشهد من أجمل مشاهد الفيلم نراه وهو يقرأ مُنتظراً إعداد الطعام، لتلتقط أنفه رائحة الطعام المطهو بالفطريات السامة، وتعبيرات وجهه تُشي بالمعرفة، ليأتي المشهد التالي ليُكمل مصفوفة المشاعر، نجده وهو يأكل، لينظر نحو “ألما” بعذوبة قائلاً: “قبليني يا فتاتي قبل أن أصاب بالمرض مرة أخرى”.
الإخراج والتصوير
تتحرك كاميرا المخرج ومدير التصوير “بول توماس أندرسون” مُسرعة في بعض المشاهد بمصاحبة الموسيقى التصويرية الرقيقة الهادئة التي أبدعها “جوني جرين وود”، تحديداً قبل حدوث أمر ما يجري بعده تحولاً وتغيراً ما للشخصية، ففي أحد المشاهد نرى “وودكووك” وهو يقود السيارة متجهاً نحو الريف الذي سيقابل فيه “ألما” وكأن الكاميرا ترغب في تسريع الحدث ودفعه للأمام.
العناية بالصورة والتفاصيل الصغيرة أهم ما يُميز الفيلم من الناحية الفنية، الصورة تبدو براقة وخاطفة بألوانها المتناسقة، كما أن اختيار زوايا التصوير جاء موفقاً للغاية، ولعل من أبرز المشاهد التي يبدو فيها الأعتناء بالصورة، مشهد اللقاء الأول الذي يجمع بين “وودكووك” و”ألما”، نجدها تقف أمامه تتلقى منه قائمة الطعام، وهي بين إطار النافذة، لا تتحرك خارجة خلال المشهد، وملامح الارتباك تطفو على وجهها، لنرى أن الكاميرا عبرت عن حالة الارتباك والحصار الذي تعانيه من جراء سطوة “وودكووك” وسحره المباغت عليها.
يبدو إيقاع الفيلم هادئاً، يعتمد بناؤه على المشاهد الطويلة نوعاً ما، وقد ساهم المونتاج في خلق تلك الحالة الرصينة المشوبة بالهدوء والدعة التي صاحبت الفيلم، رغم احتوائه على جرعة مكثفة من الصراع النفسي المشحون بالتوتر، ألا أن إخراج الفيلم بذلك الشكل استدعى ذلك الإيقاع الذي يتسرب شيئاً فشيئاً بداخل المتفرج، حتى يصل لدرجة التشبع.
كلمة أخيرة..
التجلي الأخير على شاشات السينما لـ “دانييل داي لويس” -وفي ثاني تعاون بينه وبين “بول توماس أندرسون- الرصين المُفعم بالصدق يبدو وكأنه حقيقياً خالي من الإدعاء، يبعث على النشوة والبهجة، ليظهر وكأنه يعزف أخر مقطوعاته.
آداء “ليزلي مانفيل” شديد الثقة والتمكن، رغم قلة مشاهدها ألا أن دورها وتأثيرها على الشخصية وتعبيرات وجهها المُعبرة عن جوهر العلاقة بينها وبين “وودكووك” يستحق الإشادة والتحية.
“خيط وهمي” ليس فيلماً تقليدياً عن الحب، لكنه رحلة مُتشعبة داخل دروب النفس وما تحمله من تقلبات وأهواء قد تبعث على الحيرة والقتل أحياناً.