طاهر عبد الرحمن
يعشق الكاتب المخضرم، أو “العراب” كما يصفه محبوه ومتابعوه، أحمد خالد توفيق الفانتازيا، ويجيد دائما توظيفها بشكل غير مباشر لوصف الواقع وشرح تعقيداته ومشاكله، فعلها من قبل في روايته الشهيرة “يوتوبيا”، والتي تنبأت بما قد يحدث في مصر نتيجة الخلل والترهل الذي أصاب الإدارة السياسية حتى وصلنا إلى يوم 25 يناير 2011 وما تلاه من أحداث.
وها هو يفعلها مجددًا في روايته الأحدث “شآبيب”، التي تعرض أزمة الجاليات العربية المهاجرة، وما تلاقيه من خطاب عنصري وكراهية شديدة ترفض وجودها في مجتمعات غربية، ترفض الثقافة العربية و(الإسلامية) وتراها خطرًا على وجودها، تماما كما رفضت الثقافة اليهودية من قبل. ومن هنا جاء الحل “العبقري” لكل المشاكل دفعة واحدة ويفعلون كما فعل اليهود.. لماذا لا يقومون بتأسيس دولة عربية خاصة بهم!؟
نرشح لك.. ويل سميث يشيد بفنانة مصرية
فكرة قد تبدو مستحيلة بعض الشيء، ولكن ألم تكن فكرة تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين مستحيلة على الإطلاق؟ وها هم “نجحوا” في ذلك رغم كل شيء.
فكرة الوطن لا تحتاج إلا لشيئين أساسيين: أسطورة وآثار، تاريخ وجغرافيا، وفي العصر الحديث لا شيئ أسهل من ذلك، خصوصًا إذا ضمنت تأييد أكبر قوة سياسية وعسكرية في العالم، وبقليل من المجهود وحسن التلفيق وبراعة التزوير ستحصل على ماتريد.
يقال إن القوى الإستعمارية قديمًا عرضت على المنظمات الصهيونية أن تختار بين “إفريقيا الوسطى” و”الأرچنتين” لتكون الوطن اليهودي المنشود، لكن تلك المنظمات كانت أذكى بكثير فلم تقبل إلا ب”فلسطين”، من ناحية لأنها مدعومة ب”أساطير” يؤمن بها كل اليهود، ومن ناحية أخرى، وهي الأهم، أنها أرض تقع في قلب مصالح كل القوى العظمى، وبالتالي فإن تسكين اليهود فيها لن يعتبر نهاية الأمر، ويتم حل المشكلة اليهودية للأبد، ويتفرغ الجميع لمصالحه وأطماعه، بل سوف تقف كل تلك القوى خلف الدولة الوليدة وتساندها خدمة لمصالحها قبل أي شيء، وهذا هو عنصر الأمان الأقوى بالنسبة لإسرائيل، فنجاحها لا يعتمد فقط على مدى الإيمان بها في قلوب مواطنيها، فذلك ليس مضمونا أن يستمر لأن البشر، أي بشر، قد يفقدون إيمانهم في لحظة، وبالتالي يتخلون عن “أحلامهم” من أجل أحلام أخرى.
نرشح لك.. الكتب الأكثر مبيعا بـ 27 دار نشر بمعرض الكتاب 2018
وهذا هو الدرس الأهم والأخطر الذي لم يدركه “عرب شآبيب” فحماس القوى لمنحهم وطنًا في أقصى جنوب الكرة الأرضية كان حماسا للخلاص منهم ومن مشاكلهم، مرة واحدة وللأبد، فهناك في تلك البقعة البعيدة لن يكونوا مصدر قلق، أو عنصر خطر يهدد مصالحهم وامتيازاتهم، وبقليل من المساعدة، مع الاعتراف بدولتهم، ينتهي كل شيء، وأما مسألة نجاحهم من عدمه فهي مسألة تخصهم وحدهم.
ولقد جاءت نهاية “شآبيب” طبيعية جدا ومنطقية لأبعد حد، لأنه ليس من الممكن أن تخترع تاريخًا من العدم، أو تنقض على جغرافيا لا تعرفها ولا تعرفك وتنجح بسهولة وبساطة، فالدول ليست مشاريعًا استثمارية يمكن ضمان أرباحها لمجرد أن دراسات الجدوى على الورق تقول ذلك.
وربما أن هذا هو الفرق الكبير ببن “تل أبيب” التي بناها اليهود في أرض فلسطين، وبين “شآبيب” التي حاول العرب في أقصى جنوب العالم، مع ملاحظة أن استمرار تل أبيب لي مضمونًا للأبد كما يتوهم أصحابها، لأنهم حتى اللحظة لم ينالوا القبول المطلوب من أصحاب الأرض وأظن أنهم لن ينالوه أبدًا.