عبدالرحمن جاسم
لا يشبه جو قديح إلا نفسه. إنه مسرحيٌ من نوعٍ فريد، لايمكنك أن تصنّفه، أو أن تضعه في قالب كما تريده أنت، هو ليس مسرحياً كلاسيكياً على طراز الستانسلافسكيين الأوائل، أو أنه شكسبيري أو حتى حداثوي ميللري بريشتي(نسبةً لآرثر ميللر وبرتهولد بريشت)، هو يخط طريقه الخاص وعلى طريقته. في البدايات كان يظهر على المخرج والمؤلف والممثل أنه يريد أن يكون ممثلاً في مونودراما (من خلال مسرحيات متل حياة الجغل صعبة مثلاً)، لكنه سرعان ما أظهر علو كعبه مع (الشر الأوسط الجديد، وعلاقات خطرة) التي أظهر فيهما أنهم يستطيع إدارة الممثل، كتابة مسرحية معقدة/صعبة، وفوق كل هذا تأدية دورٍ جاد بعيداً عن الكوميديا المعتادة. رغم كل هذا بقي التجريب والإداء على طريقته هاجس الممثل اللبناني. اليوم يعود نجم المسرح اللبناني إلى الواجهة عبر مسرحيته الجديدة “أبو الغضب” والتي تستمر عروضها على مسرح الجميزة في بيروت؛ حكي الكثير عن المسرحية في السابق، عن جو قديح في تجربته الجديدة والغنية، لكن هذه المرّة يبدو أن المسرحية تحفر عميقاً في الذاكرة الشفوية للناس، في الذاكرة المحكية/المعاشة غير المكتوبة لجميع من عاصروا لبنان إبان حربه الطويلة.
نرشح لك.. لماذا ألقت مؤلفة فيلم الأوسكار القصير كلمتها بلغة الإشارة؟
تأتي “ابو الغضب” صورةً عما يريد جو أن يقوله عن سنواتٍ طوال من الحرب الأهلية التي عاشها معظم اللبنانيون طوال أكثر من 16 عاماً. ذكريات الحرب؟ إنها ذكرياتٌ لابد حزينةٌ للغاية، لكن حين التذكر يعمد الإنسان إلى تحويلها إلى “نوستالجيا”. حرفياً هذا ما فعله قديح، لقد جعلنا جميعاً، نتابع أخبار تلك الحرب، سواء عبر القصص القصيرة التي يرويها واقفاً وحده على خشبة مسرح الجميّزة (مسرحه الذي بناه بعرق جبينه وبكده وتعبه). إنها حكايات البقاء في الملجأ، الوقوف على الحاجز، الخوف من العتمة، والصاروخ، والأصوات التي من الممكن أن تحمل الموت في أي لحظة. الموت هنا ليس كل الحكاية، الموت هنا مجرد قصةٍ من القصص التي باتت تضحكنا اليوم حينما نسمع عنها. يخلق جو من قلب كل هذه العتمة والحزن، والإنتظار الخائف كثيراً من الضحكات، ينتزعها انتزاعاً منا. من قال بأنه حتى في أحلك لحظات الحزن لانجد شيئاً يضحكنا من خلال التفاصيل الكثيرة. خوفنا من أشياء بسيطة، علاقتنا ببعضنا، انتظارنا لمباراة كرة قدم بين فريقين نحبهما، حتى اعلانات تلك المرحلة من الزمان أخذها جو لتذكيرنا بأننا جزءٌ من مرحلة لا تشبه إلا ذاتها. كان جو يعتصر ذاكرتنا كي يخرج أحلى ما فيها وأحلى ما فينا. إذا من أين أتى “ابو الغضب”؟ من هو؟ ولماذا كلما سمعنا الإسم نعود بالذاكرة سنيناً طوالاً إلى الخلف؟ هل اختفى أبو الغضب؟ هل ذاب؟ لن يذوب لأن أبو الغضب جزءٌ من ذاكرتنا. ولمن لايعرف فأبو الغضب وأبو الليل وأبو المراجل كلها أسماء كان يستخدمها المسلحون إبان الحرب الأهلية؛ يومها كانت تلك الأسماء مزيجاً من الرعب والضحك وإدعاء البطولة. اليوم، لا تعدو هذه الأسماء سوى ذكرياتٍ لتلك المرحلة، ذكرياتٌ لا تشبه إلا ذاتها، لأنها ببساطة لايمكن أن تكون غير ذلك.
منذ مدة، يحاول جو أن يخلق مسرحه الخاص، لربما حتى هو نجح في ذلك لأنه ابتعد كثيراً عن مجايليه خصوصاً في نوع الفن الذي يقدّمه. تلميذ أحد كبار المسرحيين في لبنان الراحل جلال خوري، الذي لطالما اعتبره تلميذه الأثير وابنه المسرحي، تعلّم من “المعلم” الكثير، أخذ منه ذلك الشغف الكبير، وأضاف إليه الكثير من الحداثوية، فأخذ من “الراب” (الفن الأميركي المعروف) وأضافه إلى المسرح ومسرحية “أبو الغضب”، أخذ من الستاند أب كوميدي وأضاف إليها حرفة الحكواتي وخلطها أخيراً مع النوستالجيا لينشأ ما يمكن اعتباره فناً خاصاً به قليلاً ما نجده في العالم العربي.
في الختام هناك سؤال لابد وأنه سيطرح وبقوة: هل هذا النوع من المسرح هو مصالحةٌ مع الماضي؟ مصالحة مع تجارب مرت بين أفرقاء متحاربين يجمعهم اليوم كل شيء: قرابات، مصاهرات، علاقات عمل، علاقات اجتماعية. الأكثر من هذا السؤال هل البلاد العربية التي مرت أو تمر بتجارب مشابهة ستعود هي الأخرى لتخليق مسرحية “أبو الغضب” بشكلٍ محلي لإيجاد حلول ولو فنية لمشاكل أكثر تعقيداً؟ كلها أسئلة وضعها جو قديح وعمله المبدع أمامنا كي نشارك في الإجابة.
نصيحة على الهامش: إذا كنت تزور لبنان، أو ترغب بزيارته، نصيحة إذهب لمشاهدة “أبو الغضب”.