شهرٌ مر على عودة الإعلامي محمود سعد لشاشة التلفزيون، عبر حلقات برنامجه “باب الخلق”، المُذاع على فضائية “النهار”؛ ذلك الرجوع الذي انقسمت الآراء حوله، ما بين مؤيد ومعارض، سعيد ومُحبط، من الشكل الجديد الذي اختاره للظهور على الشاشة، فالبعض رأى أنه تجديد للدماء، وآخرين انتظروا محمود سعد، أبرز وجوه “التوك شو” السياسي، الذي له مواقف كثيرة سابقة للمطالبة بحقوق المواطن، فلم ينل ذلك الاتجاه رضاهم.
نرشح لك: محمود سعد: “اللي عايز يشتغل مذيع يجيلي”
عودة “سعد” كانت بشكلٍ مقارب وبعيد عنه في آن واحد، فهو نفسه الوجه الإعلامي الأبرز، والأقرب للمواطن المصري، بنبرة صوته الهادئة، وأحاديث ابن “باب الخلق” التي يفهمها المثقفون والبسطاء على حد سواء، وأسلوبه الهادئ في الطرح، وفي نفس الوقت عاد ليتحدث مع المواطن، لا مع المسئول لصالح المواطن، كما اعتاده جمهوره لسنوات طويلة، ما يطرح على الساحة سؤالًا حول الأثر الذي تركته تلك العودة لشهر كامل، وفيما يلي نحاول الوصول للإجابة:
(1)
“عياركم فلت.. سنتين سايبكم.. مروحتش زورت أمك ولا خالتك النهاردة الجمعة”، أول ما نطق به الإعلامي في الحلقة الأولى تلك الوصايا التي كان دائمًا يوصي بها المشاهدين من باب “الأرحام” وتوطيد العلاقات بين الأسر، وبينه هو كمذيع وجمهوره، كواحدٍ منهم، ناصحٍ لهم، وهو ما أكد عليه خلال الحلقة بأنه عاد لأسباب عدة أهمها تلك الرسالة الإنسانية.
المقدمة الطويلة التي بدأ بها “سعد” برنامجه كانت على قدر من الود والعفوية والتلقائية، لكنها لم تُخفِ على المشاهد حقيقة عدم تركيز الإعلامي أو لعله الارتباك الأول بسبب عودته بعد الغياب الطويل، أو “حكم السن” على حد تعبيره، حيث أشار إلى أنه كان من رأيه أن الإنسان بعد وصوله للستين، يجب أن يعمل كمستشارٍ أو يجلس في منزله يشاهد ويراقب ما يحدث من بعيد، أو على الأرجح لأنه لم يحمل هم “التحضير” للحلقة، فقد تعامل بتلقائية أحد أفراد الأسرة العائد إليها من سفرٍ طويل، لكنه جاء ليخبرهم بأنه بعد تلك الفترة يفتح باب منزله لهم، ويريدهم أن يشاركوه تحضير الحلقات، بل ومن يرغب في تقديمها معه فليبادر بالحديث معه، ليتيح له تلك الفرصة، ما يتناسب مع اللون الاجتماعي الذي اختاره ليقدمه في حلقاته، مبتعدًا عن السياسة، مبررًا ذلك بأنها كانت أحد أسباب توقفه، لعدم فهمه ما هي حدودها وماذا تعني، متسائلًا إن كان تغير سعر المنتجات، أو تأثر الشارع بالغلاء سياسة أم لا؟ أو كما أوضح في الحلقة الثانية بأنه يرتبك جدًا من الكاميرا، بالإضافة لتواجد الكثير من الزملاء والصحفيين في التصوير، استقبالًا له.
“سعد” وخلال الحلقة الأولى، بل وكل الحلقات التالية، دائمًا ما كان يذكر المشاهدين بأنه عاد لا ليثير الحدث اليومي ولكن ليرى تأثيره على الناس، من خلال القصص التلفزيونية المصورة، أو ضيوف حلقاته “المصريين جدًا”، أو حتى بإدخال الجمهور في تفاصيل علاقاته الاجتماعية، وتعريفهم بأسرته وأشقائه وأقاربه وذكرياته ومواقفه التي تعرض لها وربطها بموضوع الحلقة، كأنه يؤكد أنه عاد بـ”باب الخلق”، البرنامج الذي يحمل اسم مسقط رأسه، لهم، وسيعرضها كواحدٍ منهم.
(2)
“أنا رجعت عشانك أنت.. لأن إنت أنا، وإنت اللي قاعد جمبك، وإنت اللي في الشارع”. حلقات البرنامج على مدار الشهر كانت تُذكر دائمًا بتلك الجملة التي بدأ بها أيضًا الحلقة الأولى، فكانت كاميرا البرنامج، تبحث عن ردود المواطنين على الأسئلة التي يطرحها “سعد”، الذي كان ينزل هو الآخر ليصور مع أحد الوجوه المصرية البسيطة، البعيدة عن التكلف، كحارس عمارة فقير يتحدث عن “الرضا”، أو بائع على عربية، وغيرهم من “أبناء البلد الراضيين” برغم من ضيق الحياة، ناقلًا صورة كاملة للمواطن، لا صوته فقط.
“راجع عشانك أنت”، تجسدت أيضًا في أحد مواقف البرنامج، فبعدما ظهرت نعمة هاشم إحدى المواطنات المطلقات التي تسعى لحياة كريمة واسترداد حقوقها الشرعية بعد الطلاق من أجل أبنائها، في تقريرٍ مصور، طالبها “سعد” بالتواصل مع البرنامج، لتكن إحدى ضيوف البرنامج في الحلقة التالية، وقد نجحت بالفعل في الوصول إليه، ليستضيفها وتصبح هي ضيفة الحلقة معه في الأستوديو؛ نفس الكرسي الذي شهد وسيشهد تواجد وجوه فنية وإعلامية واجتماعية شهيرة.
تواجد محمود سعد في الشارع مع المواطنين، وتصويره لتقاريرٍ معهم، كان نقطة الاختلاف عما تقدمه برامج “التوك شو” أو البرامج الاجتماعية المعتادة، فمن الطبيعي وجود تقارير تعكس آراء الناس أو تستعرض مشاكلهم وتحاول حلها، أو غيرها من أنواع نقل معاناة المواطن على الشاشة، لكن مقدم “باب الخلق” قرر أن يصبح هو المراسل، ويتقابل مع الناس، ويحاورهم، ويستخرج منهم همومهم، وأحلامهم، وأفكارهم، ويستعرض حياتهم على الشاشة، كمواطنين وليس مجرد “حالة إنسانية”.
(3)
ضيوف “باب الخلق” على مدار هذا الشهر كان لهم طابع خاص، حيث نجح “سعد” في خلق حالة من الود، وجلسات “الدردشة” معهم. فمثلًا حلقة الكاتب عمر طاهر، التي ناقش فيها كتابه “صنايعية مصر”، خلال حلقة “أكل العيش مر”، كانت عبارة عن حكايات الصنايعية، وأيضًا الدكتور فاروق الباز الذي تحدث عن ذكرياته الصعبة، وحكاياته مع أسرته، والتي كشفت زاوية أخرى ومختلفة عن العالم الشهير، غير نبوغه وشهرته العلمية، وقبلهم ضيف أول الحلقات الإعلامي جورج قرداحي، الذي عكس صورة أوسع عن المجتمع ليتحدث عن العرب لا المصريين.
واجهت حلقة الفنان محمد فؤاد مع محمود سعد بعض الانتقادات، باعتبار “فؤاد” اختيارٌ ضعيف، خاصة لاختفاء شعبيته، وخفوت نجمه على الساحة خلال الآونة الأخيرة، ما ظنه البعض ترجعًا في اختيارات الإعلامي الشهير مقارنة بضيوفه من قبل، وهي النظرية التي أثبتت خطأها، باستضافته الأحد الماضي لمنة شلبي، المُقلة في ظهورها الإعلامي مقارنة بفنانات أخريات، ما يُشير إلى أنه ما زال عنده الكثير ليقدمه.
المرأة كان لها حيز مميز في الحلقات، فاستضافة “سعد” لـ”الست غالية” الشيف الشعبية الشهيرة، التي نالت شعبية واسعة من بعد ظهورها الأول في أعقاب ثورة يناير، على القناة التي حملت نفس الاسم وقتها، ومن ثم تنقلت في العديد من القنوات، لكنها تميزت بطابع “بنت البلد”، وقد سلطت الحلقة على الحياة البسيطة التي عاشتها وذكرياتها مع والدتها وأخوتها، وتحولها لشيف شهيرة، وقد تميزت الحلقة بتعبيراتها البسيطة، والقريبة من القلب، والتي أظهرت منها جانبًا “فصيحًا” بجانب روحها المرحة، وكذلك الدكتورة أنيسة حسونة، التي روت قصة تغلبها على السرطان، مستعرضة قوتها كامرأة تستطيع قهر كل الصعاب، وتقرير “الست حنان”، المرأة البسيطة التي تربي أولادها بعد وفاة زوجها، بعملها.
(4)
تقسيم الحلقات كان مميزًا، فلم يعتمد فقط على الوجوه البسيطة الظاهرة في التقارير المصورة أو الضيوف وتعليقات محمود سعد على موضوع الحلقة، لكن كان هناك أيضًا جانب تثقيفي قصصي، حيث استعرض فيها عدة أماكن، مرتبطة بحكايات لها علاقة بعنوان الحلقة، ففي حلقة “الهم” وكيفية التغلب عليه، سرد قصة “سبيل أم عباس”، التي بنته “بمبا” التي كانت تحمل همًا كبيرًا، فبنته لكي يدعو الناس بعد الشرب منه، لكي يزول همها، ومقبرة المنصور قلاوون، والذي روى من خلال تلك الحلقة عدة معلومات عن “قلاوون” نفسه، ومقبرته.
(5)
حلقات محمود سعد خلال الشهر الأول تؤكد أن الظن بأن الإعلامي عاد للشاشة مبتعدًا عن السياسة -كما وصفها البعض وهو نفسه وأثار حزنَ أكثر من غضب جمهوره الذي اعتاد على أن يطرح الإعلامي قضايا الزيت والسكر والشاي والخدمات- ظنًا منهم أنه سيقدم خلال حلقة برنامجه، ما يُهمش المواطن أو قضاياه، غير صحيح؛ فهو ابتعد عن السياسة نعم، عن الأحداث اليومية بالفعل، لكنه لم يبتعد عن المواطن، لكنه في صورته الأقرب لما يحتاجه المشاهد اليوم، في زحام “التوك شو” المليء بالصراخ والمشادات والخلافات و”الصداع”، عاد ليُظهر وجه مصر الخفي، من خلال حكايات يرويها أصحابها، ولا تُروى عنهم، انتقل من الأستوديو للشارع، من أن يكون صوتًا للمواطن، لمضيف له ليتحدث عن نفسه.
تلك العودة أشبه بما اختاره إعلاميون عدة في الآونة الأخيرة، لمنح “السعادة” والمتعة للمشاهد، لا لتذكيره بكل ما يعانيه ولا يجد له حلًا، مجرد مزايدات عليه على شاشات التلفزيون، قدم “سياسة” بدون “سياسة”.