فى إحدى محاضراتى فى الجامعة، كنت أقوم بتدريس مادة منهج البحث التاريخي، تذكرت أحد المشاهد الهامة التى مررت بها وحكيتها لطلابى ..” ذات يوم كنت أسير فى السوق ووجدت شجاراً عنيفاً بين اثنين من سائقى العربيات الكارو، حتى وصلت حدة الشجار لدرجة أن أحدهم نزف من أنفه، وأثناء الشجار وجدت عشرات من الرجال والنساء محتشدين للمشاهدة ومصمصة الشفايف ، فسألت أول المشاهدين عن سبب الشجار ايه يا عم اللى بيحصل ؟ فرد قائلاً: “الله يسهلهم يا أوستاااذ ، دع الخلق للخالق، دى مسألة أعراض، قولتله طيب ما تدعهم انت كمان!!!”
نرشح لك.. د.محمد فياض يكتب: أنا الوحش
سألت الثانى فقال لى: ” والله ياخويا الواد المتعور ده كان بيحب أخت الواد التانى ورفضوه عشان الواد ابن خالتها اللى شغال فى ايطاليا بيغسل مواعين وجايب شوال دولارات الله يسهلهم ياعم”، سألت الثالث فقال لى: “دى أرزاق يا عمنا واللى يجي على رزق زميلة يستاهل يتعمل فيه كده الواد التانى بلطج وخد دور الواد الأولانى فى الحمولة وده ما يصحش ” !!!!”
سألت أكثر من عشرة من المشاهدين فلم يخبرنى أحد بعدم المعرفة بل كان الكل يعلم، والكل حاضر والكل بأسباب مختلفة جداً، وبعد أن انتهى الشجار وتدخل الجميع للإصلاح ذهبت إلى طرفى الشجار وسألتهم ايه المشكلة بس استهدوا بالله ، فقال لى أحدهم حصل خير يا أستاذ ، يرضيك الواد أبو غل ده أرن عليه عشان أسمع الكول تون يفتح عليا!!
هكذا يُكتب التاريخ ، وهكذا يفتى المصريون!!
إن عناصر الحكاية السابقة دالة بإمتياز عن الولع المصرى بالفتي، والفرجة، والإحتشاد، والتأليف، لا يستطيع المصرى أن يتركك حيراناً، لابد له أن يفتي ويحكى بفهم وانطلاق، ولأن المصرى بطبعة خدوم فحاول مرة أن تسأل أحدهم عن أى عنوان، سيشرد قليلاً ثم سيقول لك المقولة الأثيرة المقدسة: “هو قالك فين؟” وبعدها سيعتدل ممارساً دوره كأعظم من برنامج Gps واصفاً لك تلك الوصفة السهلة، الوصفة الهايلة، وأنت وحظك، إما أن تقضى ساعتين تائهاً، أو تدور فى حلقات مفرغة أو حتى تذهب للجحيم ولكن الأكيد أنك لن تصل أبداً للعنوان الذى سألت عليه.
كما أن معظمنا نحن المصريين نمارس دورنا المقدس فى الفتي والإفتاء، وحسبما يكون المجال العام منشغلاً نكون نحن فى ركابِه، لم أنس أبدًا جلسة صالون الحلاقة وقت أن عقدت مصر مع روسيا اتفاقية المفاعل النووى، قام الحلاق بإعطائى محاضرة متكاملة عن أصول إنشاء المفاعلات النووية، ونظام التبريد وتخليق اليورانيوم ، وكيفية استخدام البلوتونيوم، ولا جلسات المقاهى عندما يسعدنى حظى للجلوس بجوار أحد الرجال الكبار المطلعين على خفايا البيت الأبيض وما يدور فى كواليس المكتب البيضاوى، فضلاً عن ثالث يحكى لى يومياً خفايا ما يحدث فى روسيا ودور الرئيس بوتين فى سوريا، وشرحه التفكيكى لأحداث الشرق الأوسط والسيناريوهات المستقبلية وفى غمرة الاستمتاع بكلامه أجد نفسى قد وصلت ولم أشعر بالوقت الذى قضيته معه فى التوكتوك أثناء توصيله لى.
كما أن الطب هو أحد أهم مواطن العبقرية فى الثقافة الشعبية المصرية، فلا يوجد مرض على وجه الأرض ليس له علاج شعبى عند المصريين ، بدءاً من نزلة البرد حتى أشد أنواع الأمراض الخبيثة فتكاً، فإذا كان أحدهم مصاب بأخطر الأمراض وحكى مصيبته لأى مستمع سينظر بكل بساطة وسيقول له طيب ما سهلة … هات لمونتين ونص خيارة وشوية حبة البركة وانقعهم فى زيت بتنجان مقلى وبالشفا !!!
لن تجد مشكلة ليس لها حل فى الثقافة الشعبية المصرية، كل نظريات الثقافة والفن والإقتصاد والعلاقات الدولية والطب والأسرار المخابراتية كلها موجود هنا وحصرياً، إن المقولة البشعة لا أعرف مقولة ترقى لمرتبة الحرام فى الثقافة الشعبية المصرية بل من الممكن أن تكون إحدى الكبائر، فنحن نعرف، ولا يجرؤ أحد أن يشكك أننا لا نعرف ، ولن نكتفى بالمعرفة بل سننشرها والراجل بقى يقاوح أو يعاند !!!
نرشح لك.. منى سلمان تكتب: فين عيونك يا حنان
ولأن الشخصية الشعبية المصرية هى شخصية مختلفة ومُبهرة وحية فهى تتميز بما لم يتميز به غيرها، سيظل المصرى يسخر ويفتى ويضحك على نفسه ومن نفسه وعلى الآخرين ، سيظل عم بطاطا كما أسماه العظيم جمال بخيت وكما وصفه قائلاً ”
عم بطاطا لذيذ و معسل عمره ما طاطا لغير الله
عم بطاطا يقول الراوي خبّى الحكمه في توب الحاوي
ينفخ ناره عشان إفطاره و بنكتته بيداوي بلاوي
عاش عم بطاطا ضاحكاً ساخراً فاتياً مفتياً طبيباً اقتصادياً … عاش عم بطاطا أعظم سياسى على وجه الأرض .