كيف يكتب هذا القلم الكسير عنك؟، وهو فقط يتألم من شدة الفراق، مُلتاع لا يسعى إلى شيء. لا شيء يا أمي يمكن أن يكون عوضاً عن رحيلك المباغت، وأنا بجهلي وطفولة شيبي هذا، لم أكن أحسب أو أفهم إشارات الرحيل، كنت دائماً مطمئناً أنك هناك في البيت الكبير في حضن أبي وكنفه وإخوتي بنسائهم وأطفالهم “قبيلتك” التي تُغنيك دائماً عن رحلات وسفرات وغُربة وعذابات أبنك الضال.
نرشح لك: أحمد فرغلي رضوان يكتب: ساندرا نشأت..تضع الرئيس في مواجهة الشعب
كنت دائماً أقول أن هناك إشارات وإنني سأفهم، وربما كنت أظن إنني الذي سيسبقك إلى هناك.
كنت دائماً في منطقة دافئة، بردت فجأة واستبد بها الصقيع، حتى جدران بيتي، باتت لا تعرفني، بلا رحمة، باتت طاردة، إنه الانكسار الوجع والانسحاب من أي رغبات في الحياة، هذا هو حالي يا أمي حتى في الحب الذي أؤمن دائماً، أن فيه دواء للجروح الكبيرة، هل تعرفين يا أمي أن كل الأغنيات الطيبة التي أحب والتي حتى أكتبها أو كتبتها سارت تنطبق عليك؟
كل اشعاري صارت تحمل ابتسامتك الحلوة، ألمك، ودموعك، وأنينك، وحتى ملامح المرأة في شعري كانت دائما تأتيني من صورة هي أنت، العيون الحبيبة الآسرة، الحضن الوافر الرحابة، حتى “الضفاير”.. يا أمي ستجدينها في كل أشعاري.
هل كانت أمي سيدة الدنيا ولم أكن أعرف؟
كنت أشفق دائماً على من يكتبون لأمهاتهم الراحلات من مبالغاتهم التي تشبه مبالغة الأطفال في الحب.
كنت أحيانا أمر على بعض الأحزان باستخفاف.
آه.. أنه وجع لا يعرفه إلا من جربه..
طفلتي “جميلة” تقول بابا لا تبكي الرجال لا يبكون وكنت اقول لها لا “خليني” أبكى عليها هذا أقل شيئ أقدر أعمله الآن، في اليوم التالي ذهبت إلى أمي وكنت تنتظرني قبل مراسم تغسيلها كانت فعلاً تنتظر، بكيتها، وقلبت كل ما يمكن أن اقبله فيها بسلام ودموع وخجل لأني لم ألبي دعوتها الأخيرة لي، تحججت بالمرض والحساسية التي أهلكت صدري طوال ثلاث شهور، وجلبت لي الاكتئاب الحاد والرغبة في البعد حتى عن أقرب الناس.
بعد ساعات كنت أقف أمام المسجد، ثم حاملاً للنعش مع السائرين من أهل قريتى وفوداً غفيرة كلهم في محبة هذه السيدة الطيبة، ثم أتت لحظة الفراق الأخير والنظرة الأخيرة، لم اشأ أن تركها وحيدة فيها، دخلت معها القبر، وفككت عنها أكفانها، وقبلت قدمها للمرة الأخيرة وقفت أضمد جراح أبى وإخوتي وأخواتي البنات في صلابة، وابتسامة رضا، في العزاء توالت الجموع من بلدنا ومن بلدان مجاورة، قرايب، نسايب، ومعارف حتى مدرس اللغة الفرنسية في ثانوي وجدته في العزاء سملت عليه وقلت له: أنت استاذي..أشكرك.
في الليل انفردت بأبي وسألته سؤالين صرحين أحدهما ما كل هذا الحب الذي في قلبك لأمي؟ وأنا عمري ما شفتك كدة؟ حكى لي أنه تزوجها قبل 40 سنة، وأنها عشرة العمر، وكان الكلام بسيط وعادي وغير منمق، إلا أنه يصل للقلب كحد الرشق، ثم سألته هي كانت زعلانه مني ؟ أجاب.. كانت زعلانة عليك، قلت لإبي الذي لم أنم بجواره منذ أكثر من عشرين سنة، فاكر آخر ليلة نمت جنبك ؟ من 21 سنة، منذ ليلة ميلاد “على” ابن أخي الأكبر، وكان أول مولود في البيت، ثم جلسنا نتذكر حكايات العمر والعمرة التي سافرت فيها أمي معي، والعمرة التي أصرت أن تشارك أبي فيها في السنة التالية لعمرتها المنفردة معي، وكانت سعيدة بطقس العمرة والطواف والسعي ربما هي أجمل لحظات حياتها على الأطلاق.
في العمرة كنت آخذ أمي إلى المطاعم ونأكل ونتمشى، كانت سلوتي الوحيدة، وأنا اتكلم معها وتحكى لي حكايات وتبعث ببعض الأغاني نعم الأغاني، أذكر جلستنا والتي احتفظ بتسجيل خاص لها غنت لي أمي كل أغاني الحج التي كانت تغنى في طفولتها.
أمي كانت تجلس أمام البيت مع الجارات، وتفتخر بي محمود ابني مايحبش غير المطربين اللي ما “بيضحكوش” وكانت تقصد منير وفيروز وماجدة الرومي وسلين ديون وغيرهم، كلهم جادين وحالمين وأصحاب نواصي هامة في عالم الغناء، أما لما يحب يتبسط بقى فيسمعنى أنا ماهو مسجل لي حاجات كتير وأنا بغني أو يسمع الشيخ شرف أو يوسف شتا، نعم صدقتي يا غالية، فعلا لما كنت بسمعك كنت بسمع أول صوت وصل لي في الحياة وكنت كل ما بسمعهم بفتكر كلامك وإلهامتك ليا في اغاني اكتير آخرها “اللي رموني فيك”.
قبل أيام من موت أمي كنت أنشر على صفحتي على الفيسبوك أشياء لا أعرف سرها مثل صورة قبر ورجل جالس أمامه ينظر إليه كأنه يقول: هذا هو المصير، أرفع لعدة مرات صوت الشيخ شرف وهو يغنى “أمانة يا قبر ليلة وحدتي فيك هنيني، لا خل صادق ولا رفيق جنبي يسليني” والتي غناها بعد عودته من مريض طويل وأبكت الناس وبعضهم فهم أنها من اشارات الرحيل لصوتهم المحبوب، ومقطع آخر بيقول “وماتت العيون الجميلة اللي كان ننهم بيشوف.. والوجه اللي زي القمر م الموت صبح مكسوف”.
ثلاث اتصالات متتالية في ثلاثة أيام يا أمي “لازم تيجى”.. “وجيت لا لقيت يا “آمنة” ولا لاقيت البيت”، فالبيت هو أمي هذا هو المعنى الذي خرجت به من هذه الرحلة، ماتت أمي فنطفأ كل نور البيت.
أنارت أمي بيتي الجديد بزيارة طويلة لمدة أسبوع كان هذا في رمضان قبل الماضي كنت أدخل عليها أجدها، وقد أعدت الإفطار بخيرها القادمة به من البلد، نجلس في البلكونة لتناول الإفطار أنا وهى وأبنتي جميلة، ثم نسهر حتى الفجر، نتكلم ونحكي وكنت قد أردت من هذا اللقاء أن أعقد صداقة بينها وبين “جميلة” وذكريات مازالت بنتي تذكرها، ثم اطلب منها “بدحلبة” أن تذكرنى بغنوة كذا وهى من اغانيهم القديمة في الريف وثم ابدأ في تسجيل هذا الجلسة دون أن تشعر أمي وفي مثل الجلسات كانت روح أمي تفيض بومضات من زمن لما أعشه ومعاني أصل إلى حد الوله لملاقاتها أو العثور عليها، انها الأغاني البكر كما اسميها تشبه بنات الريف البكر في خفتها وتشبه صوت أمي.
للحديث بقية..