محمد حكيم يكتب: السبق الإعلامي.. استغلال للوجع أم رسالة؟!

كانت أصوات سيارات الإسعاف تغلف الأجواء، وكنا جميعا نتحرك بحذر شديد، ونلتزم بدقة بتعليمات رجال المفرقعات على عكس العادة، السبب كان معروف بالنسبة لي فيبدوا أننا جميعا كنا نستعيد في عقولنا وفي نفس اللحظة تقريبًا تفاصيل انفجار جامعة القاهرة الأخير الذي تجمع بعده رجال الشرطة والصحفيين في موقع الانفجار بشكل عشوائي، فدفع معظمهم عمره ثمنًا لهذه العشوائية عندما حدث انفجار ثاني في نفس الموقع كان الإرهابيون يقصدون منه إصابة رجال الشرطة والصحفيين.

ولأن العمر واحد، “ومش بعزقه”، كان الكل يلتزم هذه المرة بتعليمات رجال المفرقعات ولا يقترب من أي منطقة إلا بعد مسحها جيدًا، وطبعا كنت أنا أول الملتزمين لكنني كنت مهموم بالتفكير في مشكلة تتكرر معي في كل الأحداث المشابهة، وتظهر في ذهني على شكل سؤال، هل من الأنسانية أن تذهب إلى مصاب ينزف أو إلى رفيق شهيد يجمع أشلاء صاحبه وتحاول أنت أن تجري معه لقاء؟

هل يجب أن تغلب حقك في صناعة السبق الصحفي، على حق الناس في أن تحزن دون أن يعترضها مراسل
لوذعي يضع ال”مايك” فجأة في أفواههم ويسألهم بماذا يشعرون الآن؟

الإجابة دائمًا صعبة، وحلوها مر!

نرشح لك: محمد حكيم يكتب: مذبحة أبو مسلم.. من قال لا أعلم فقد أفتى

فاحترام خصوصية وجلال الموقف يعني أن تقصر وتفشل في عملك، والانتصار للعمل يؤدي إلى طعن
الإنسانية، والأسوأ أنه أحيانا كثيرة ينتهي بجمل توبيخ وإهانة وربما محاولات ضرب
من المصادر التي تكون في غاية الحزن أو في قمة الغضب.

السؤال ظل يشغل بالي حتى قررت طعنه في مقتل، عندما رأيت أحد المصابين محمول على “ترولي”
الإسعاف وواضح أن قدمه شبه مبتور بفعل الإنفجار.

بمنتهى الهدوء والخفة وبخبرة سنوات العمل الطويلة اخترت الباب الجانبي لسيارة الإسعاف
ووقفت هناك، شبه مختفي.

بعدما تزاحم الصحفيون والمصورون لالتقاط صورة المصاب البطل أو التسجيل معه ففشلوا جميعا
بفعل التدافع، الذي أجبر طاقم الإسعاف على إبعادهم والإسراع بالمصاب إلى داخل
سيارة الإسعاف ودفع “الترولي” من باب السيارة الخلفي ليتمدد المصاب
البطل، قدماه جهة باب السيارة الخلفي، ورأسه في عمق السيارة جهة الباب الجانبي لأظهر
أنا فجأة موجهًا “المايك” جهة فمه مباشرة واطرح عليه السؤال في غفلة من
الجميع.

أنا: “الف سلامة عليك، عارف إنه ما يصحش اتعبك دلوقتي، بس من حق الناس تطمن عليك ولو بكلمة
واحدة وتعرف حصل ايه؟”

هو: “الله يسلمك، أنا كويس الحمد لله، كنت مع زمايلي بنعمل شغلنا وفجأة حصل الانفجار، وعشان
انا كنت الناحية التانية من الانفجار رجلي بس اللي اتصابت، لكن زمايلي اللي كانوا
في جهة الانفجار كلهم استشهدوا، انا كويس بس خايف لو رجلي اتقطعت ما يردوش يرجعوني
الشغل وما اعرفش اخد بتار الأبطال دول، الله يرحمهم.”

نرشح لك: محمد حكيم يكتب: من موقع التفجير.. مراسل ما شافش حاجة

فني الإسعاف (وهو يدفعني ويحاول إغلاق الباب): “كفاية يا أستاذ”

أنا: “الف سلامة عليك” (ابتعدت عن الباب وانا أقول في عقلي كده كفاية انا تعبت الراجل
وما احترمتش إصابته)

المصاب البطل: “لحظة يا أستاذ لو سمحت”، (ابتعد فني الأسعاف، واقتربت أنا من
البطل حتى اسمع طلبه).

المصاب البطل: “هو اللقاء ده هيتذاع امتى وفين بالظبط؟ عاوز ولادي يتفرجوا عليه عشان
لو حصلي حاجة يكملوا بعدي وياخدوا بتار زمايلي.”

السؤال بهتني ليس لأن إجابته صعبة فقد قلتها دون حتى أن أفكر، لكن لأنه جعلني أرى الأشياء
بنظرة مختلفة تمامًا.

الحكاية إذن ليست سبق صحفي، ولا عدم احترام لأوجاع البشر، الحكاية هي رسالة عليك أن تبلغها
للناس حتى لو اضطررت أحيانا إلى الضغط على وجع الشرفاء، فعدم وصول الرسالة سيوجع
المجتمع كله حتى لو لم تكن أنت قادر الأن على رؤية هذا الوجع.