داخل محطة سكة حديد بني سويف، كان صوت القطارات المتتالية يخلق خلفية لحركة المسافرين والعمال تنقل لك فورًا إحساس الترحال والسفر، وكنت أنا أفكر في مدير الأخبار، الذي طلب مني ترك فريق العمل هنا في بني سويف، والعودة إلى القاهرة منفردًا، لتنفيذ تغطية تليفزيونية هناك، لا يصلح لها غيري -على حد تعبيره- طبعًا كنت مستاءًا من هذا الطلب خصوصًا وأنا أعرف جيدًا أن هذه الجملة ليست سوى مدخل لتكليفي بمهمة عمل شاقة لا يعلم بمحتواها إلا الله.
فجأة تذكرت مثل شعبي كانت أمي تكرره دائمًا: “الناصح إن جاله الغصب ياخده برضى”، فقررت أن أتخلى عن استيائي، وغضبي واتعامل مع الموقف من منطلق المتعة الصحفية التي كان لها فعل السحر في تغير كل شيء حولي.
أنا: لو سمحت عاوز تذكرة ذهاب للقاهرة في قطار الدرجة الأولى أو الثانية المكيفية القادم.
بائع التذاكر: آسف أول قطار مكيف قدامه أربع ساعات من الآن، لو مستعجل اركب القطار المميز الموجود على الرصيف، بس الحقه قبل ما يتحرك.
بسرعة توجهت أنا إلى الرصيف، فصدمني المنظر فهذا القطار الواقف أمامي هو قطار الترسو حيث الشبابيك المكسرة، والأبواب التي لا تغلق، والناس التي تضغط نفسها داخل القطار بطريقة غريبة فتخرج أجزاء منها من النوافذ والأبواب ومن أي فتحة متاحة.
عاودني صوت أمي وهي تقول مثلها الشعبي المفضل فتخطيت الصدمة وألقيت بنفسي داخل إحدى عربات القطار الذي قررت هيئة السكة الحديد أن تعدل منه وفق أحد خططها للتطوير فأدخلت عليه بعض التجديدات التي لم يتبقى منها إلا الأسم “القطار المميز”.
وبصعوبة وجدت لنفسي ركنًا وقفت فيه، كنت أعلم أن الجلوس على كرسي سيكون حلم صعب المنال ولذلك لم اشغل بالي بالبحث عن مقعد وفضلت أن أركز على قراءة تفاصيل المشهد داخل القطار والذي كان دراميًا بامتياز.
في أقرب مكان مني كان يجلس أربعة أشخاص، رجل خمسيني لحيته كثيفة، اندمج في قراءة كتيب صغير يبدو أنه من كتيبات الأدعية الشهيرة، يجاوره فتى يظهر أنه طالب تخرج حديثًا من الثانوية العامة، وهو في طريقه للقاهرة للالتحاق بالجامعة أو لاستكمال أوراق أو شيء من هذا القبيل، وفي مقابل الرجل والفتى يجلس اثنان من الشباب واضح أنهما أصدقاء ربما في مهمة عمل أو ما إلى ذلك.
التحرك داخل القطار كان صعبًا ليس فقط من شدة الزحام، لكن أيضًا لأن الممرات والطرق كلها متكدسة بحقائب وأمتعة المسافرين، بينما أرفف القطار المخصصة أصلًا للأمتعة تحولت إلى سرير طويل يتمدد عليه مجموعة من الركاب يغط معظمهم في النوم، واضعًا تحت رأسه فوطة حمام أو مغطيا بها وجهه.
المكان كان يبدوا كأنه مسرح أعد بإتقان لحدث درامي سيقع قريبًا، وما هي إلا دقائق حتى دخل طفل لا يتعدى عمره العشر سنوات يرتدي بنطلون جينز وفانلة داخلية ويحمل جردل به زجاجات مياه غازية مناديًا: “حاجة ساقعة بيبس، اروي عطشك…”.
أشار إليه الفتى سابق الذكرطالبًا زجاجة، وفي لمح البصر كان هذا الطفل قد أخرج زجاجة من الجردل وفتح غطائها بملعقة كانت في يده الأخرى وقدمها إلى الفتى، الذي تناولها وبدأ يشرب منها، ولأن حجمها كان صغيرًا فقد فرغت بسرعة.
الطفل البائع: الف هنا يا بيه، عشرة جنيه الحساب.
الفتى: عشرة إيه؟ ليه دي تمنها جنيه ونص، طب قول تلاته جنيه ماشي.
الطفل البائع: هي بعشرة كنت سألت قبل ما تشرب، خلصني طلع الفلوس أنا مش فاضيلك
الفتى: أنا مش هدفع أكتر من خمسة.
“لا هتدفع غصب عنك” قالها الطفل البائع وغادر المكان، لتظهر علامات القلق والترقب على ملامح الفتى، وليقول له الرجل الملتحي أحسن أنك ما دفعتلوش دول ناس حرامية، بس انت كان لازم تسأل عن السعر قبل ما ما تشرب إنت أول مرة تركب قطر يا ابني ولا ايه؟
وقبل أن يجيب الشاب، كان الطفل البائع قد عاد، ومعه شاب أكبر سنأ مفتول العضلات وعلى وجه علامات جروح قديمة، توجه إلى الفتى وقال له: إنت شربت ومش عاوز تدفع ليه؟ ولم ينتظر منه أجابة لكن وجه إليه صفعة بقلم حولت ضجيج عربة القطار إلى صمت، ثم أكمل كلامه: طلع العشرة جنيه أحسن لك.
حبس الفتى دمعه كانت ظاهرة في عينه بوضوح ووضع يده في جيبه وأخرج العشرة جنيه وقدمها للفتوة.
تخيلت أنا وقتها أن المشهد قد انتهى، ولم أكن أتصور أبدًا أن كل ما حدث كان مجرد تمهيد لمشهد الذروة، الذي بدأ عندما وقف شاب أسمر اللون، صحيح البنيان، كان يتابع الموقف ككل الركاب، وفي هدوء شديد اقترب من مكان الحدث وحمل “جردل زجاجات المياه الغازية” الموضوع على أرضية القطار وقذف به من النافذة.
ثم وجه صفعة قوية للفتوة، وقال بصوت مرتفع: القلم ده علشان أنت ظالم وحرامي.
بعدها اقترب من الفتى المسكين الذي ضربه الفتوة منذ لحظات فتوقع الكل أنه سيطيب خاطره بكلمة، فإذا به يصفعه بقلم أيضًا، ويقول بصوت مسموع: أما القلم ده فعشان انت رضيت بالظلم وسيبت حقك.
قال ذلك الشاب الأسمر ثم تراجع خطوة للوراء وخلع “حزام البنطلون”، وانهال به ضربا لكل الجالسين بجوار الشاب وهو يصيح بهم: أنتم كمان تستحقوا الضرب لأنكم شوفتوا الظلم بعنيكم وسكتوا عليه.
تراجعت انا خطوة للوراء خوفًا من أن يقرر هذا الشاب الأسمر الغريب توسيع دائرة الضرب فيصيبني منها شيء، والحمد لله لم تصلني ضربات الحزام، لكن عبرة المشهد اخترقت وجداني وعلمتني درسًا مهنيًا لا أنساه: “لا يتحقق الحياد دائمًا بالانحياز إلى المظلوم، فقد يتساوى خنوع المظلوم مع بطش الظالم، أما جوهر الحياد فيتحقق بإعلاء قيمة الحق، الذي إن لم تستطع أن تدافع عنه بصفعة قلم أو ضربة حزام فعلى الأقل دافع عنه بالصورة وبالكلمة”.