مكبرات الصوت كانت تصدح “يا ست زينب لينا نظرة، يا أم الكرامات العجب، ياللي ضريحك عندنا أجمل وأغلى من الدهب”، وكنت أنا وفريق العمل نتلمس طريقًا للحركة وسط زحام المريدين والمحتفلين الذين تكدسوا في ساحة مسجد السيدة زينب والشوارع المحيطة به، فحوَّلوا الحي بأكمله إلى احتفال كبير على شرف مولد الست.
بطبيعة الحال أُفضل أنا هذه النوعية من التقارير الصحفية، فزخم المشهد وتنوع مكوناته بين الباعة وزوار المقام وجلسات الذكر يوفر لك مكونات التقرير التليفزيوني الناجح بدون مجهود كبير، كما أنني في العادة أختم عملي بشراء حلوى المولد والحمص، وهو ما يجعل أبنائي يغفرون لي التأخر في العمل، ولذلك كنت أتحرك وسط زحام المولد بارتياح كبير لكنني لم أكن أتوقع أبدًا أن هذا الزحام يخبئ لي واحدًا من أهم المشاهد التي سأراها في عمري.
نرشح لك – محمد حكيم يكتب: يوميات مراسل.. المساواة في “الضرب بالحزام” عدل!!
كان يبدو على غير الحالة التي تعودت أن آراه عليها، فلا بالطو أبيض، ولا سماعة طبية، ولا رسوم آشعة، وحتى ملامحه الجادة كان يبدو أنه غيرها، لكن كل هذا التغير لم يكن ليجعلني أخطئه أبدًا، فأنا أعرفه جيدًا منذ سنين، إنه جراح القلب الشهير، الذي زرته كثيرًا لأجري معه لقاءات صحفية عن إنجازاته الطبية أو عن حالة نادرة قرر هو تبنيها.
لكن يا ترى ما الذي جاء برجل العلم والأرقام والتحاليل إلى هذا المكان في ذلك التوقيت؟
لم يكن الوقت يسمح بطرح الأسئلة والبحث لها عن إجابات، فلحظة تردد واحدة كفيلة بأن تضيع مني هذا المشهد للأبد وتخفي بطله في قلب زحام بشري يستحيل أن يعيد إليك مفقود، ولذلك تحركت خلف بطلي مباشرة.
كان يمضي سريع الخطى كمن يعبر طريقًا حفظتها أقدامه من كثرة ما مرت به، وكنت أنا خلفه أحارب أمواج الزحام حتى وجدته أخيرًا يدخل إلى صوان صغير على بعد أمتار من مقام السيدة.
داخل الصوان كانت الحضرة قد بدأت، على صوت منشد رقيق يقول (سيدة يا سيدة، يا أم الشموع القايدة…..)، بهدوء تحرك الطبيب إلى وسط الحضرة واندمج مع المريدين، أغمض عينيه وبدأ في الذكر، على يمينه فلاح يرتدي جلبابًا بلديًا وطقيه، وعلى يساره شاب عشريني يرتدي بنطلون جينز وقميص، ثلاثتهم كانوا مندمجين في الذكر والحركة بشكل متناغم كأنه قد تلقوا تدريب مكثف على هذا الأداء رغم أنهم لم يلتقوا قبل ذلك.
لا أعرف لماذا رأيت في هذا المشهد ما لم آره من قبل؟ فأنا ككثير من الناس كنت أحمل صورة نمطية عن المريدين وزوار الحضرة، لا أكرههم لكني أتصورهم منخفضي الثقافة ولا علميين، واليوم رأيتهم عكس ذلك ربما هم أرفع مني ثقافة، وأكثر مني علمًا، ربما قلوبهم أنقى وأقدر على الانخراط في حالة روحية لا يرتقي لها مثلي.
لماذا كنت أتصورهم سطحيين وباحثين عن الطرب والفتة، وهل أثر تصوري هذا على التقارير التي أعددتها عنهم وعن موالد مشايخهم قبل ذلك؟
لن أستطيع أبدًا أن أعرف بشمول تاريخ الناس، وخلفياتهم، ولا حتى أن أفهم بكمال مواقفهم وتصرافتهم، ولست مطالبًا بشمول المعرفة ولا بكمال الفهم، لكنني ملزم بحيادية النقل.
الآن تعلمت أنا الدرس، ليس مهمًا أن أرى الناس كما يرون أنفسهم، لكن المهم أن أنقل ما يبدون عليه، لا ما أظنه أنا عنهم.