حسين عثمان
لا تبخل الحياة من آن لآخر بطرح البشر أمام اختبارات مفاجئة صادمة تقف بهم أمام مرآة لا تكذب ولا تتجمل، مرآة الموت، أصعب اختبار لإنسانية البشر، فعنده تظهر بحق إن كانت النفوس نقية تقية، أم خربة وملوثة، والحقيقة أن وفاة الكاتب أحمد خالد توفيق، جردت نفوس مجتمع بالكامل من سواتر التحضر والرقي، فلم تظهر إلا عارية تنضح بأسوأ ما فيها.
نرشح لك – المقال الذي تحدث فيه أحمد خالد توفيق عن وفاته
لم يفعل الطبيب الأديب أحمد خالد توفيق، سوى أنه لبى نداء ربه وهو في منتصف الخمسينيات من عمره، وبعد أن عانى مع قلبه رحلة مرضية شاقة سنوات طويلة قبلها، وكان أن سار الرجل في حياته في اتجاه ارتضاه لنفسه، وصادف هوى قطاع عريض من الشباب، في وقت يفقد فيه الجميع بوصلة التواصل مع قوة شابة تمثل أكثر من ثلثي المجتمع.
ابن الغربية المولود بمدينة السيد البدوي، تخرج من كلية الطب بجامعة طنطا منتصف الثمانينيات، ثم استكمل دراساته العليا حتى حصل على الدكتوراة في طب المناطق الحارة، والتحق كعضو هيئة التدريس واستشاري الأمراض الباطنة المتوطنة في طب طنطا حتى وفاته، ورغم شهرة الأديب الطاغية على عطاء الطبيب الأكاديمي في حياة الرجل، إلا أنه لم يغادر شرنقة الريف إلا محلقاً في خياله.
المؤلف الروائي أحمد خالد توفيق، اختار طرح رؤاه الإنسانية من خلال أدب الخيال العلمي، أو أدب ما وراء الطبيعة، وكلاهما الوصف الأقرب إلى المنطق والواقع لهذا النوع من الأدب، فأنا لا أميل إلى وصفه بالرعب في المطلق، لأنه من ناحية يقلل من قيمة الرؤى الإبداعية الفنية والفكرية التي يتسم بها، ومن ناحية أخرى فإن الإحساس بالرعب نسبي في حياة البشر.
وقد بدأ الراحل رحلته الشيقة مع هذا النوع من الأدب بعدة سلاسل في التسعينيات، منها فانتازيا وسفاري و3W، قبل أن يتجه إلى الرواية، فكان أن أبدع روايات يوتوبيا والسنجة ومثل إيكاروس وفي ممر الفئران وشآبيب، ومعها تزينت قوائم الأكثر مبيعاً باسمه، وفي السياق، جاءت مؤلفات أخرى منها قصاصات قابلة للحرق وعقل بلا جسد والآن نفتح الصندوق الصادرة في ثلاثة أجزاء.
ولأن أحمد خالد توفيق لم يسمح لأضواء الشهرة بخطفه من محراب الكتابة، توهج نشاطه فكتب العديد من المقالات في عدة دوريات صحفية أهمها مجلة الشباب، ولعله كان حرصاً منه على ملاقاة جمهوره الشاب في موعد شهري ثابت، ولم يهمل نشاط الترجمة، فنشر سلسلته المترجمة رجفة الخوف، كما ترجم عدة روايات عالمية شهيرة، على رأسها عداء الطائرة الورقية للأفغاني خالد حسيني.
لم يفعل أحمد خالد توفيق سوى أنه أدى رسالة مهنية وأدبية وإنسانية في حياته، وشغل مساحة ثرية في قلوب بريئة نقية، لم تفعل إلا أنها شيعته بمحبة صادقة بعد أن آلمها رحيله المفاجيء، ولعل ارتباط الشباب بالخيال والمغامرة، في سنوات اشتدت فيها القيود على أحلامهم، هو ما صنع الصلة الوثيقة إلى هذا الحد فيما بينهم، فودعوه وداع أعز وأغلى الناس.
ماذا يضير الآخرين في هذا؟!.. هل صارت النفوس مشوهة إلى حد السخرية من الموت؟!.. من متوفٍ غادر الدنيا بمن عليها وما فيها؟!.. من رثاء أبناء فقدوا والدهم؟!.. من محبة الناس لإنسان؟!.. من بصمة مهنية وإنسانية أخذت مكانها في حياة شباب تعجزون عن مجرد التواصل معه؟!.. أم من مشاعر صارت عملة نادرة وسط كم مهول من مشاعر كره الذات قبل الآخرين؟!.
لم نطلب منكم رثاء أحمد خالد توفيق، ولا مواساة ذويه وأحبائه، ولا تقديره أو قراءة أعماله، فقط ترحموا عليه، فلا تجوز على الميت إلا الرحمة، وإن كانت ثقيلة على ألسنتكم قبل قلوبكم، فاتركوا الآخرين وشأنهم مع الرجل ورحيله ورثائه وتقديره وإحياء ذكراه، تخلوا ولو قليلاً عن حالة الانفصام الحاد بين أقوالكم وأفعالكم، وعيشوا إنسانيتكم ولو لحظات حتى تشملكم رحمة الله.
لكن أن يصل الأمر برئيس تحرير صحيفة قومية يومية، تحمل اسم إحدى أهم رواد الفكر والفن والإبداع، إلى حد أن يلوم نفسه على الوقوع فيما أسماه “فخ مرثية أحمد خالد توفيق”، لهو أمر لا يدانيه إلا قراره ومجلس تحريره، باستبدال ملف رثاء الرجل، بآخر يعيد فيه النظر في سيرة أحمد خالد توفيق ومسيرته، وانطلاقاً من البحث عن علاقته بالإخوان المسلمين!!.
لا حول ولا قوة إلا بالله، الله يعينكم على نفوسكم، ويتقبل منا استجابة من القلب، لمبادرة الأديبة الشابة غادة عبد العال، والتي أطلقتها على الفيسبوك لمحبي الراحل الكبير بعنوان “أبانا الذي في طنطا” كصدقة جارية على روحه، وتتلخص في قراءة رواياته الخمس بمعدل رواية أسبوعياً اعتباراً من اليوم، وهي على التوالي روايات شآبيب وفي ممر الفئران ومثل إيكاروس والسنجة ويوتوبيا.
وعلى أن يقوم الواحد منا بشراء نسخة أصلية من الرواية بنية الصدقة الجارية، وإن كان قرأها ويملك منها نسخة من قبل، يقوم بإهدائها إلى قاريء جديد لأحمد خالد توفيق، بمجرد أن ينتهي من قراءة الرواية ثانية، وأثناء قراءة كل رواية، يقوم المشترك بنشر اقتباسات مصورة منها على صفحته الشخصية، حتى يظل التيم لاين على الفيسبوك عامراً بكلمات أحمد خالد توفيق.
ونتمنى مع غادة أن تعتلي الروايات الخمس قوائم الأكثر مبيعاً طوال مدة المبادرة، فلا تتحقق فقط استعادة قيمة ما قدمه أحمد خالد توفيق، وإنما تتعاظم معها قيمة رثائه وإحياء ذكراه وما قدمه من إبداع تفرد به في حياته، لن أندهش إذا لاقت المبادرة هي الأخرى سخرية أولئك أو هؤلاء، فمن يسخر من الموت، تهون عليه السخرية من كل ملامح الحياة.