سامح الزهار
يقول صَفِيِّ الدينِ الحِلِّي في وصف القاهرة: “لله قاهرة المعز فإنها بلد تخصص بالمسرة والهنا” .. فمن عجائب الأمور أنه قد نسي أو ربما تناسى الغالبية من صناع البرامج التلفزيونية والأعمال السينمائية والدرامية في مصر الرموز البصرية لتراث القاهرة المعماري عبر عصوره المختلفة خاصة التراث المادي المنسوج في حياة المصريين اليومية، كنماذج العمارة الدينية والمدنية والدفاعية والخيرية والمدينة التاريخية بكل ما تذخر به من سجلات صامتة وهو الحجر الذي سألت عنه ذات مرة الراحل العظيم الأستاذ جمال الغيطاني فقال لي : هي ليست آثار حجرية، بل هي قصائد الحجر، ذلك الوصف البليغ الذي صاغه الغيطاني وربما هو أفضل وصف لتراث القاهرة العتيق، إلا أنه بحكم العمل والتخصص في مجال الآثار وخاصة الإسلامية منها لفت نظري الصورة البديعة للآثار المعمارية التي قدمها برنامج “وصفوا لي الصبر” للكاتب عمر طاهر، والتي ذكرتني بمشاهد الآثار الإسلامية وتحديداً القاهرة التاريخية في الأعمال السينمائية خاصة التي استلهمت روح المحلية الشديدة وارتقت بها الى العالمية .
فقد قدم عمر طاهر في برنامجه البديع وجبة مهمة ومتنوعة من ظهور لتراث القاهرة الأثري، ففي الحلقة الأولى ظهر طاهر أمام بوابة حديقة جبلاية الأسماك ثم بداخلها، تلك الحديقة الرائعة التي أنشأها الخديوي اسماعيل سنة 1867م، وهي من أجمل وأهم الحدائق الخديوية في مصر، كما أنها ظهرت أيضاً في الحلقة الرابعة، وقد ظهر في الحلقة الأولى أيضاً ميدان طلعت حرب وهو درة تاج القاهرة الخديوية والذي يضاهي أهم ميادين العاصمة الفرنسية باريس، كما ظهر في الحلقة ذاتها وأيضاً في الحلقة الثالثة من البرنامج كوبري قصر النيل التاريخي ذو الأربع أسود الأثرية والذي قد أنشئ في عهد الخديوى إسماعيل فى الفترة من 1869م حتى 1871م، بمشاركة شركة صناعة الصلب الفرنسية، وقد تم افتتاحه أمام حركة المرور فى فبراير 1882م، ثم حُدِّث فى عهد الملك فؤاد الأول عام 1930م، وتم افتتاحه فى 6 يونيو 1933م .
نرشح لك: تفاصيل ندوة “وعد بلفور” بمعرض الإسكندرية للكتاب
وفي الحلقتين الثانية والسادسة كان البطل المعماري هو بيت السحيمي، ذلك الأثر الفريد القابع بحارة الدرب الأصفر في منتصف شارع المعز لدين الله الفاطمي، حيث ظهر عمر طاهر وضيوفه داخل صحن البيت الأمامي وأسفل مشربياته وفي بعض الأحيان في التختبوش، والتختبوش هو ذلك المساحة المستطيلة المسقوفة التي كان يجلس فيها صاحب البيت ورفاقه، وكلمة تختبوش هي كلمة فارسية الأصل مكونة من مقطعين الأول هو تخت أي مقعد و الثانية بوش أي صاحب فهي تعني صاحب المقعد أو صاحب المكان، إلا أنه في الحلقة السادسة قد ظهر صحن بيت السحيمي الخلفي وهو الصحن الخدمي المحتوي على ساقية خشبية كانت تدار بواسطة الدواب لتضخ المياه اللازمة لاستخداماته، ومن طاحونة كانت تستخدم لطحن الغلال والحبوب اللازمة لأهله، ومن قبة من الجص المعشق بالزجاج الملون منقولة من أحد البيوت القديمة بدرب سعادة ترتكز على رقبة أسطوانية بها ستة عشر نافذة من الجص المعشق بالزجاج الملون .
أما الحلقة الخامسة وهي الحلقة التي كان أبرز ضيوفها الراحل البديع الدكتور أحمد خالد توفيق، قد تطرق عمر طاهر للحديث مع ضيوفه عن ظاهرة الكُتاب أصحاب النجومية الزائفة ممن أفسدوا جزءاً من ماهية المجال الإبداعي وهو ما يطيب لي أن أسميه أن عمر طاهر وضيوفه قاموا بعمل مذبحة أشبه بمذبحة القلعة لمن وصلوا بصنعة الكتابة – كما يحب أن يسميها طاهر – الى مراحل متدنية، وعلى ذكر مذبحة القلعة فقد ظهر في الحلقة الدرب الأحمر أحد أهم بقاع القاهرة التاريخية وقد سمي الدرب الأحمر بهذا الاسم نظراً لأن لونه تحول الى الأحمر بسبب الدماء التي سالت من القلعة بعد المذبحة الشهيرة التي قام بها محمد علي، وقد كان في بادئ الأمر اسم الشارع شارع الدم الأحمر إلا أنه تخفيفاً لحدة الاسم سمي بالدرب الأحمر، وأيضاً ظهر باب زويلة ذو المئذنين الشهيرتين لمسجد المؤيد شيخ، وهذا الباب الذي الذي تم تعليق رؤوس رسل هولاكو قائد التتار عليه حينما أتوا مهددين للمصريين فكأنما أراد عمر طاهر أن يعلق عليه رؤوس من أفسدوا صنعة الأدب والكتابة في مصر، كما توج الحلقة الأكثر ثراءاً في ظهور الآثار المعمارية منطقة الغورية والخيامية والتي هي أكثر المناطق دفئاً وشجناً في القاهرة التاريخية .
ما يعرضه البرنامج من آثار وتراث معماري مصري فريد له مميزات كثيرة سواء مرتبطة بالبرنامج وفكرته وطريقة التناول والعرض أو حالة الإمتاع البصري إلا أنني أرى أنه أيضاً يوثق لتلك الآثار فبعد عدة سنوات ربما نلجاً الى هذه المادة لمعرفة تطور شكل الأثر مع الزمن وربما تطور عمليات الترميم التي تتم، ولكن الأبرز على الإطلاق أن البرنامج هو الأول من نوعه الذي ربط رافدي التراث وقدمهما في صورة واحدة وهو التراث المادي المتمثل في العمائر العتيقة والتراث اللامادي (المعنوي) المرتبط بفن المصريين وآدابهم وحكايات البشر التي صاغها عمر طاهر ببراعة .. وللحديث بقية.