كُتاب منسيون: حسين فوزي.. سندباد الأدب المصري

محمد حسن الصيفي

“ما لا تحفظه الذاكرة لا قيمة له”

يبدو أن صاحب المقولة آمن بها وطبقها على نفسه وحياته، فاحتفظ بكل التفاصيل في عقله، واستخدم ذاكرته القوية في سرد كل ما تراه عينه وذلك منذ أن حصل على بكالوريوس الطب عام 1923 وعُيّن طبيبًا بمستشفى الرمد بطنطا وطبيبًا بمصلحة الطب عام 1924 وبعدها بعام أسعده الحظ بالالتحاق بالبعثة التي أعلنت عنها الحكومة المصرية للتخصص في علوم البحار بفرنسا، ومن هنا بدأت الرحلة والتي امتدت لثلاثة وستين عامًا، رحلة الطب والأدب والثقافة.. إنه الأديب والدكتور حسين فوزي.

الرجل الذي تقلد عديد المناصب وطاف الدنيا وكتب عنها ونقل لنا العالم في فترة من أشد الفترات سخونة في التاريخ، فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.

اختير فوزي كأول عميد لكلية العلوم بالإسكندرية ومديرًا للجامعة ذاتها ووكيلاً لوزارة الثقافة مشهودًا له بالكفاءة والألمعية واستقال بعدها ليلتحق بجريدة الأهرام عام 1961 ليتفرغ للكتابة.

بدأ فوزي رحلاته مبكرًا غير أنه أخذنا معه في تلك الرحلات بداية من كتابه “سندباد عصري” الذي صدر عام 1938، وفيه يصف رحلته في هذا الكتاب بمقدمة بسيطة “صفحات ضمنتها صورًا وخطرات أوحت بها جولاتي في أنحاء المحيط الهندي، وحياتي على ظهر السفينة”

ثم يختم الكتاب بمقولته الرائعة “تلك الحياة العجيبة الضاربة في أرجاء الأوقيانوس الواسع وسط ذلك المعسكر العائم، بين جنود تسلحوا للفتح العلمي لا المذابح البشرية، خفت جرسها فوق هذه السفينة، ولقد عاد كل منهم إلى وطنه وعمله وعادت سفينتنا، وفي نفوسهم ذكرى يزيدها الزمن ائتلافًا، ولكنهم تركوني هنا وحدي، كالشاعر البدوي أبكي فوق الدمن وأستبكي الرائح والغادي!”

نرشح لك – الكتب الأكثر مبيعًا في7 مكتبات خلال مارس 2018

بعدها كتب “حديث السندباد القديم” عام 1943 وفيه يقول “فأنا أعود بخيالي إلى المحيط الهندي لا كما عرفته منذ نحو عشر سنوات، بل كما عرفه البحارة العرب فيما بين القرن التاسع والرابع عشر…”، وكتابه الثالث كان “سندباد إلى الغرب” 1949 والذي لا يختلف بحال من الأحوال عن الثنائي الذي سبقه بيد أنه كما بدأه ينهيه لخالد الذكر بيتهوفن فيقول “ولا أدعى لكتاب سندباد إلى الغرب أكثر مما أدعيت لكتابي الأول، فهو أيضًا صفحات ضمنتها صورًا وخطرات أوحت بها إلى حياتي بين مصر وبعض أنحاء العالم الغربي، لا أتوخى فيه غير أمانة التصوير، وصدق الإحساس، وصراحة التعبير رائدي لحن لببيتهوفن يبتهل فيه إلى العلي القدير (هبنا من لدنك الجمال معقودا بالخير) وقد اتخذته للكتاب شعارًا، لأني على يقين بأن الفضائل مهاد الجمال، ومؤمن بأن الجمال يؤدي إلى الخير”.

أما كتابه الأشهر “سندباد مصري” الذي كتبه عام 1961 فهو جولات في رحاب التاريخ، ونظرة متفحصة وتحليلية للتاريخ المصري ولمفهوم القومية والذي تعرض بسببها الثلاثي (توفيق الحكيم، ولويس عوض، وحسين فوزي)، لصدام عنيف مع الكاتب والمثقف الكبير رجاء النقاش، والذي خصص كتابًا كاملاً يقع في مائتي وثلاثين صفحة بعنوان “الانعزاليون في مصر” مفندًا فيه آراءهم ومقالاتهم وقد حصل لويس عوض والحكيم على نصيب الأسد من النقد والتفنيد لدرجة أن النقاش فند مقالات بعينها، بل وجزئيات محددة من تلك المقالات ورد عليها في صفحات مطولة من كتابه الهام.

وعن سر “السندبادات” في كل كتب حسين فوزي وبعض مقالاته في الأهرام التي حملت أيضًا عنوان “سندباديات طياري” يقول ردًا على فؤاد دوارة في كتاب “عشرة أدباء يتحدثون”: “من أوائل الكتب التي وقعت في يدي وأنا طفل كتابان في مكتبة أبي هما (ألف ليلة وليلة، وعجائب الهند بره وبحره وجزائره)، والأول معروف أما الثاني فكله قصص وعجائب بحرية إنه رحلات سندبادية دون أن يرد اسم سندباد.. من هنا جاءت البداية”.

والحقيقة أن الدكتور حسين فوزي جاءت كتاباته بسيطة وميسرة، أحيانًا تتخللها العامية من باب الصدق والاتساق مع الوصف، وهو في هذا يختلف مع وصف نجيب محفوظ للعامية بأنها آفة كالفقر والجهل والمرض فيقول: “أنا أرفض وصف العامية بأنها مرض أو آفة، فاللغة العربية لغة أجنبية بالنسبة للمصري ولأهل المغرب جميعًا وحين تعلمها المصري بسطها ويسرها وجعل لها جمالا موسيقيًا فلا يمكن أن يكون ذلك مرضًا أبدًا، هذا مستحيل..”

وخلاصة رأيي في هذا الموضوع أن للكاتب الحرية المطلقة في أن يكتب باللغة العامية التي يمليها عليه إحساسه، فإذا كان قديرًا على أن يكتب قصصه كلها باللغة العامية فليفعل، فما بالك إن أراد أن يكتب بالفصحى، فليس لأية قوة أن تحجر قوة على حرية الفنان، ومع ذلك فإني أكره إلى أبعد حد أي خطأ في النحو والصرف، لأن مراعاة قواعد النحو والصرف هي التي تؤدي إلى الدقة في التعبير، فيجب عدم التهاون في هذا عندما نكتب باللغة الفُصحى.
والحق أن حسين فوزي أحد أفضل رواد “أدب الرحلات” في مصر والوطن العربي، وباستثناء بعض المواقف التي قد يتفق معها البعض أو يختلف مثل زيارته لإسرائيل وموقفه منها أو موقفه من القومية، فإن الرجل قدم كل ما رأته عينه للقارئ، ومن قبل القارئ المسئول الذي يريد الاطلاع على ما يدور في العالم، وهو في ذلك شأنه شأن المخلصين يصيب ويخطئ ويجتهد حتى أنه في بعض الأحيان غالبته المعلومات وتدفقها على أسلوبيته فيعتذر عن الإطالة ويعود للموضوع، وهو لم يترك شاردة ولا واردة رأها إلا وقد ذكرها.
يكفيك أنه في كتابه “رحلة إلى العالم الجديد” قدم ميزانية الولايات المتحدة الأمريكية في التعليم الجامعي والمقدرة بنحو ملياري ونص الميار وذلك عام 1956 1957
وقت أن كانت المعلومات متعذرة وصعبة المنال وليس مثل وقتنا الحاضر بضغطة زر تصل لكل ما تريد.

رحل الدكتور حسين فوزي عام 1988 بعد رحلة مكوكية وعطاء متصل ومؤلفات شتى في الأدب والفن والموسيقى لا زلنا نقرأها ونستمتع بها حتى الآن ولا زالت مقصد القراء من مختلف الأجيال.