وُلد عملاقًا على يد عمالقة، فعندما تأتي البداية والخطوة الفنية الأولى، بأعمالٍ من صنع أسماءٍ مثل عبد الرحيم منصور وسيد حجاب وهاني شنودة وأحمد منيب، فأنت لا تحتاج إلى أمارة لتثبت مدى أصالتك وتفرُدك واختلافك. لم يُضَيِع منير وقتًا في البحث عن نغمته الخاصة، فهو يبدو وكأنه قد وُلد بها، كمنحة ربانية وهدية من السماء، أسطورة بالفطرة، مهدي غير منتظر يظهر في أرض منسية مهملة، فيخرج منها كصرخة احتجاج أبدية، صرخة تحمل من الحب والسلام والطيبة، بقدر ما تحمل من تمرد ورفض ورغبة في إثبات الوجود. رسول النوبة الذي تخطى برسالته الفنية حدود الوطن، ووصل بها إلى العالم بأسره في رحلة غير مسبوقة، كل خطوة في هذه الرحلة تحتاج إلى صفحات وصفحات لنحكي عنها، لذلك فمحاولة اختصار كل هذا التاريخ في مقال واحد تبدو مهمة شبه مستحيلة، ولكننا سنجتهد ونحاول، وتبقى المحاولة شرف، وللاجتهاد أجرٌ حتى ولو لم يصِب.
1- من السخرية للانبهار
التسعينات.. سنوات الترهل والجمود على كافة المستويات والأصعدة، والتي كانت جميلة برغم كل شىء. من أهم المشاهد الكلاسيكية الباقية في الذاكرة، والمعبرة خير تعبير عن هذه الفترة، هو مشهد التفاف الأسرة – أي أسرة – أمام شاشة التلفزيون المصري في ليالي الخميس، أو أيام الأعياد، والمناسبات الوطنية، لمشاهدة حفل ليالي التلفزيون أو أضواء المدينة. كنا نتسمر أمام الشاشة لنرى مطربين من نوعية محمد ثروت ومحمد العزبي، أو هاني شاكر ونادية مصطفى، وأحيانًا حكيم. نتابعهم بنصف اهتمام، ونحن نترقب الفقرة الختامية الأهم، وهي فقرة الفنان محمود عزب الشهير بـ “عزب شو”. كانت أمي رحمها الله تنام عند بداية الحفلة، بعد أن توصينا بأن نوقظها عندما يأتي “عزب شو” الذي يظهر أخيرًا في الساعات الأولى من الصباح، ليقدم فقراته الكوميدية المعتادة، والتي يقوم خلالها بتقليد مجموعة من النجوم والمشاهير مثل مفيد فوزي وكرم مطاوع وسمير الإسكندراني ومحمد نوح وأولاده ومحمد منير. بالنسبة لجيل مواليد الثمانينات الذي أنتمي إليه، كانت هذه اللحظة هي بداية تعارفنا على محمد منير، والذي رأيناه وقتها، مجرد مطرب غريب الأطوار، منكوش الشعر، مبعثر الثياب، يمشي بطريقة غريبة، ويقوم بحركات مضحكة أثناء غنائه، ناهيك عن أنه أصلاً يغني أشياءً غير مفهومة. هذه هي الصورة الذهنية الأولى، والانطباع الأول، الذي تكون لدينا عن محمد منير، والذي لم يدُم بالطبع، كما تقول القاعدة الخاطئة تمامًا. لأن نفس هذا الجيل، عندما كبر ونضج قليلاً، هو الذي أنصف محمد منير، ورد إليه الاعتبار في سنوات لاحقة، وتوجه ملكًا على عرش الأغنية المصرية، لدرجة أنه تحول على أيديهم إلى “موضة” لادعاء العمق والاختلاف، فحتى من لا يحب منير، أو لا تعجبه أغانيه، لم يعد يجرؤ على المجاهرة بذلك، فهو الآن “الملك” بعد أن ودع حقبة التسعينات، الأسوأ بالنسبة لمنير على مستوى الجماهيرية، رغم أنه قدم خلالها، خلاصة تجربته الغنائية، وأغلب ألبوماته المهمة.
2- ربك لما يريد
بعد طرحه لألبوم “الفرحة” في نهاية التسعينات، والذي لم يختلف مصيره كثيرًا عن ما سبقه من ألبومات، وصل منير إلى ذروة إحباطه، وفكر جديًا في ترك مصر، والهجرة إلى ألمانيا، ولكنه قرر في النهاية أن يبقى، ويحاول مرة أخرى. لم يكن يدرِ في هذه اللحظة أنه يتخذ أهم قرار في حياته على الإطلاق، فألبومه التالى سيحقق من النجاح والدوي والانتشار، ما سيفاجئ منير نفسه، وكلمة السر كانت منتج شاطر، ذكي، يعرف من أين تؤكل الكتف، لديه حدس نادرًا ما يخيب، وتخصص في صناعة أغنية “الشارع” وكأنه أكثر واحد “قارئ دماغ” المصريين، ومحضر “دكتوراه” في معرفة ذوقهم الغنائي. أتحدث عن نصر محروس، الذي تعاون معه منير للمرة الأولى، فكان ألبوم “في عشق البنات”. ترك نصر محروس منير يفعل ما يشاء في الألبوم، ثم وضع لمسته باختياره للأغنية التي ستجر رجل “الزبون” وهي أغنية “ربك لما يريد” لا أريد أن أقول “الكليشيه” الشهير بتاع “شعب متدين بطبعه” لكنها الحقيقة، فعندما تخاطب المصريين – أو تغني لهم – من زاوية الإيمان بالله فأنت تسلك أقصر الطرق اختصارًا للوصول إلى قلوبهم. وهذا لا يعنى بالطبع أن تكتفي الأغنية – أو أي عمل فني – بالاعتماد على هذه الجزئية فقط، فيجب أن تكون الأغنية جميلة بالأساس، وهو ما كان، فوقت صدورها صنعت “ربك لما يريد” حالة غير عادية بين الناس، وفي الشارع، فأينما نذهب كنا نستمع إليها. العجيب أن منير في هذه الأغنية كان يغني نفسه، ويصف حالته، أو يحقق نبوءة، ففي نفس اللحظة التي غنى فيها “ربك لما يريد أحلامنا هتتحقق” كان ربنا بيريد فعلًا أن يحقق منير حلمه الخاص، من نجاح يستحقه بكل تأكيد، وهي مفارقة قدرية لم تتكرر مع أي مطرب آخر، باستثناء أحمد شيبة الذي كانت أغنيته “أه لو لعبت يا زهر” سببًا في “لعب الزهر” معه هو شخصيًا.
3- مش مهم تفهمه
لو وجدت من يدعي بأنه يفهم كل أغنيات محمد منير فثق بأنه “بيشتغلك” أعتقد محمد منير نفسه لا يفهم بشكل كامل الكثير من كلمات بعض أغانيه، وما المقصود منها، ولا أقصد هنا أغنياته باللهجة “النوبية” فهذه قصة أخرى، بل أتكلم عن أغانيه التى كُتبت باللهجة العامية، فالكثير من معانيها غامض، وغير مفهوم، ويحتمل تأويلات كثيرة. هذا الغموض، وهذه الحالة من عدم الفهم، شكلوا معا العنصر الأهم في صنع أسطورة منير، وعامل الجذب الأكبر لجيلنا، نحو أغانيه، ففي وقت كانت تحركنا فيه العاطفة والجموح، وتتحكم فينا خيالات وهواجس لا حد لها، وتتفتح أعيننا على كثير من التساؤلات الكبرى ولا نجد إجابات شافية. وسط هذه الحيرة جاء محمد منير ليخبرنا بالحقيقة الأولى: بأن هذه الحياة قائمة على عدم الفهم. أغلب الأشياء ليست كما تبدو في الظاهر، من يدعى أنه يفهم هذه الحياة ، لا يختلف كثيرًا عمن يدعى فهمه لأغنيات منير، فأغنيات محمد منير – مثل الحياة تمامًا – تحتاج ألا تفهمها حتى تفهمها بشكل صحيح.
4- حدوتة مصرية
لم تكن “ربك لما يريد” هي المرة الأولى التي يغني فيها منير نفسه، فعلها قبل ذلك بسنوات، في أحد أشهر أغانيه، وأكثرها عظمة “حدوتة مصرية” وهو بالفعل حدوتة، وحكاية، أقرب لعالم الأساطير منها للواقع، حدوتة أهم ما يميزها هو مصريتها الصميمة. تتلخص هذه الحدوتة في أمرين تميز فيهما منير عن أي مطرب آخر، التميز الأول في أغانيه عن مصر، فبعيدًا عن الشكل التقليدي المبتذل، للأغنية الوطنية، جاء منير ليفتح آفاق جديدة، ويقدم بجرأته المعهودة، تجارب مختلفة، مليئة بالمعاني والدلالات، وتحمل وصفًا وتشريحًا دقيقًا، لمشاهد ولحظات تاريخية من عمر الوطن، بدءًا من “دي المشربية عيونك بتحكي ع اللي خانوكي” ومرورًا بـ “بحبك وحبك شهادة ميلاد ” إلى “قلب الوطن مجروح لا يحتمل أكتر”، ويكفى تلخيصه المدهش لقصة العبور في نصر أكتوبر بجملة: “البنت قالت فستاني.. منشور على الشط التاني.. خدني المراكبي وعداني.. ورجعت في القمرة الليلة”. الأمر الثاني الذي تميز فيه منير فهو إعادة إحيائه للتراث الشعبي، وأداؤه للأغنيات القديمة، ولو ركزنا مع النوع الثاني فقط، سنجد عبقرية من نوع خاص، فعلى حد علمي لا يوجد مطرب آخر، أجاد تقديم أغنيات لا تخصه، وحقق بها نجاحًا ربما أكثر – أو لا يقل – من أصحابها الأصليين. بدءًا من “أنا بعشق البحر” التي لم يعلم الكثيرون حين غناها منير أنها أغنية قديمة لنجاة، مرورًا بـ”حكايتي مع الزمان” لوردة، إلى “حبيبي الأسمراني” لشادية. كل من حاول تقديم أغنيات لا تخصه، وقع في فخ التأثر بأداء أصحابها الأصليين، باستثناء منير الذى يصبغ الأغنية بروحه، ويقدمها بأسلوبه الخاص، فنشعر وكأننا أمام أغنية مختلفة، وجديدة تمامًا، نسمعها لأول مرة.
5- مطرب الوطن والغربة
تناقضات منير لا تنتهى، ويبقى أوضحها، وأكثرها إثارة للتعجب، هو قيامه بالغناء عن الوطن والغربة، بنفس القدر والكثافة، فالغناء لمصر وعنها، سيبقى جزءً أصيلاً من مشروع محمد منير الغنائي، وفي نفس الوقت، تقريبًا لا يخلو له ألبوم من كلمة “غربة” بتنوعاتيها المختلفة. منذ صرخته الشهيرة في ألبومه الأول “إيه يا بلاد يا غريبة” وهو نفس الألبوم الذي ضم أغنيات مثل “قول للغريب” و”فـ عنيكي غربة”، وهذه حرص على إعادة غنائها وتقديمها في آخر ألبوماته بتوزيع جديد، وكأنه يؤكد على امتلاكه لشفرة جينية من نوع خاص، تحمل في تكوينها، المادة الخام للشعور بالغربة، كأحد الأوجه المتعددة لمنير، فهو هو نفس المطرب الذى يمتلك وجهًا آخرًا، يغني خلاله للوطن وأهله وناسه، ليدرك كل من يستمع إليه، أنه لا منطق مع محمد منير، فهو تجسيد حي للجنون، والغرابة، والتناقضات.
6- المعادلة المستحيلة
في لقاء تلفزيونى قديم، سأله محمود سعد عن كيفية اختياره لأغانيه، وهل يغني ما يحبه ولا “بيشوف الجمهور عاوز إيه ويعمله؟” ليجيب منير: “بخلي الجمهور يعوز اللي أنا عاوزه”، وهي إجابة توضح فلسفة منير الغنائية، واختياره للطريق الأكثر صعوبة، وهو طريق خلق جمهوره الخاص. في جيل محمد منير كان هناك نوعان من نجوم الغناء، الأول يسير خلف الجماهير، ولا يهمه سوى “الفرقعة” والنجاح الوقتي، والثانى تسير الجماهير خلفه، تنتظر جديده بشغف، وهم من يحرصون على تقديم فن جيد نوعًا ما، نفس حرصهم على النجاح الجماهيري، فيميلون إلى “اللعب في المضمون” مع هامش ضئيل للمغامرة أو التجديد. كانت هناك بعض الأسماء التي تمردت على كل هذا، لكنهم جلسوا في “برجهم العاجي” يلعنون الجماهير، ويتحسرون على ذوق الناس الذي فسد، بل وصل بهم الأمر أحيانًا للتباهي بفشلهم في الوصول الناس، فهم يعتبرون عدم نجاحهم جماهيريًا دليلاً قاطعًا على رقي ما يقدمونه. كان محمد منير تقريبًا الوحيد في جيله الذى لم يرضخ لقواعد “السوق” وفي نفس الوقت لم يزهد في الجماهيرية ويعتبرها “سبة “. نجح منير في بداية ظهوره، لكنه عانى من أُفول نسبي في حقبة التسعينات، كما ذكرنا في فقرة سابقة. ربما لا يصدق الجيل الحالي من جمهور منير أنه مر بهذه الفترة، فهم يخلطون بين انتشار أغنيات منير القديمة، ونجاحها بأثر رجعي، وبين مردوها المحدود وقت صدورها. هذا الانطباع الجماهيري يعتبر دليل إثبات، على أن منير استطاع في النهاية أن يفرض فلسفته، ويحقق المعادلة المستحيلة، بأن يقدم ما يريد، وبأن يجعل جمهوره يريد ما يقدمه.
7- ماتعرفش تكرهه
مع اندلاع ثورة يناير، فاجأنا منير في أيامها الأولى، بطرحه لأغنية “إزاي” والتي تحولت لأيقونة للثورة. وصل منير في هذه اللحظة لأقصى درجات اتساقه مع نفسه، ومع تاريخه الغنائي، فالمطرب الذي كانت أغانيه تحرض على الحلم والثورة والتمرد، كان من الطبيعى أن يأتي صوته في صدارة المشهد الثوري. بعد وصوله لهذه الذروة، بدأ الخذلان والسقوط التدريجي، ترك منير فراغًا كبيرًا يمتلئ بالكثير من علامات الإستفهام. ربما بالغ البعض وحمل منير فوق طاقته، فهو في النهاية مطرب وليس “جيفارا” وإن كان تاريخه الغنائي المحرض، هو من وضعه في هذا المأزق. لم تتوقف خسائر منير عند هذا الحد، فمسلسله “المغني” جاء باهتًا للغاية، لا يليق بتاريخه، وخلق له أزمة شهيرة مع أهل النوبة. بشكل عام لم تأتِ السنوات الأخيرة في مصلحة منير، وفقد فيها الكثير من بريقه. في النهاية وسواءً اتفقنا أو اختلفنا مع الانتقادات الموجهة لمنير، سيبقى ما قدمه من فن أهم وأبقى، وسيبقى رصيده لدينا من المحبة أكبر بكثير من كل تلك الهنات. لا يأتي كل يوم من يملك القدرة على صنع تاريخ حافل مثل هذا، فنحن لا نملك سوى محمد منير واحد، ولهذا السبب سيبقى هو “الملك” الذي أحببناه، وسنظل نحبه، مهما قال، أو فعل.