استكمالا لما ذكرته في المقال الأول حول مارادونا وفكرة “يد الله”، وما حدث في مونديال 1986 في مباراة الأرجنتين وإنجلترا، حينما سدد مارادونا الهدف بيده، يفسر علي بن ناصر، حكم المباراة قراره في هذه الكرة: “قبل البطولة شدد الفيفا على الحكام بأن الأولوية لقرارات المساعد في الكرات الأقرب له خاصة إن كان موقعه أفضل، بعد دخول الهدف نظرت إلى حكم الراية بينما كنت أعود إلى منتصف الملعب لإعلان الهدف، كنت أنظر إليه وأنتظرت أن يشير لي بأن الهدف غير صحيح ولكنه لم يفعل وكان عندي شك كبير ولكنني اتبعت التعليمات، ولم أعرف أن هذا الموقف سيصبح حدثًا تاريخيا “.
نرشح لك: مصطفى حمدي يكتب: “يد الله”.. هدية مارادونا لبابا الفاتيكان!
المفارقة أن مارادونا تحدث كثيرًا خلال البطولة عن ظلم التحكيم حتى أنه وجه في مذكراته اتهاما للفيفا بأنه لم يكن يريد فوز الأرجنتين بالبطولة بسبب كراهية رئيسه البرازيلي “جواو هافيلانج” وقتها لمنتخب بلاده، ولكن هذه التصريحات لم تكن أغرب من تفسير مارادونا التاريخي للهدف عندما سُئل بعد المباراة عما إذا كان هدفًا صحيحًا أم باليد فقال: “إنها يد الله، لقد تعرضنا لظلم الحكام طوال البطولة، الله أراد أن يعمي بصيرتهم الأن.. إنه يوم الحساب!”.
يد الله لم تكن المشهد الوحيد في يوم مجد “دييجو”، بعدها بدقائق معدودة أحرز الهدف الثاني الذي صُنف كهدف القرن، لم يتطلب الأمر أكثر من 10.6 ثانية قطع خلالها دييجو 66 ياردة مرواغا ستة لاعبين بخفة راقص تانجو يقدم استعراضًا تاريخيا على البساط الأخضر.
الأذكياء فقط هم من يتعلمون من أخطاء الماضي، اكتب هذه الحكمة في ورقة كبيرة وضعها على الحائط المواجه لفراشك، صدقني “عملتها قبل كده ومنفعتش”، لكن المفارقة أن دييجو أضاع نفس الهدف قبل ست سنوات في لقاء ودي جمع المنتخبين على ملعب ويمبلي ولكن مارادونا قرر أن يسدد قبل مراوغة الحارس فخرجت بعيدًا عن المرمى.
يقول دييجو في مذكراته: “اتصل بي شقيقي الأصغر (هيوجو) بعد المباراة وقال لي (أيها الأحمق كان لابد أن تراوغ الحارس ثم تسددها)، أثارت كلماته حفيظتي فقلت له: “أنت وغد، تجلس أمام شاشة التلفاز وتتابع وتنتقد وترى الأمور بسيطة، تعالى ونفذه في الملعب بدلا مني!”.
ولكن مارادونا لم ينس الدرس وطبقه بالنص في المرة التالية ليتوج العالم هذا الهدف بلقب “هدف القرن”، ولكن الحكم علي بن ناصر كان له فضل آخر في هذا الهدف، يعترف بن ناصر قائلًأ: “لم يحرز مارادونا هذا الهدف بمفردة، كما أن يد الله لم تتدخل هذه المرة، فقد منحته إتاحة فرصة ثلاث مرات حاول خلالها لاعبوا انجلترا عرقلته وهو في طريقة للمرمى، ولكنه كان يقاوم ويستمر ولم أحسب مخالفة حتى عندما واجه حارس المرمى (شيلتون) قلت سيسقط هذه المرة ولكنه راوغه وأحرزها، كان مارادونا رائعًا ومحلقًا مثل طائر لا يوقفه أي شيء”.
حتى بوبي روبسون مدرب انجلترا في هذه المباراة لم يخفي إعجابه ودهشته بهدف دييجو الأسطوري فقال:
“لقد كان هدفًا في منتهى الروعة، لم أشاهد في حياتي هدفًا مثله ولا يمكن مشاهدة هدف كهذا حتى في مباراة تجري في الحديقة بين مجموعة من الأطفال الصغار، لكن مارادونا تمكن من تسجيله في ربع نهائي كأس العالم “.
ظل هدف مارادونا الأجمل عبر التاريخ، حتى عندما سجل السعودي سعيد العويران هدفه الشهير في مرمى بلجيكا خلال مونديال 94 لم تنتابني الدهشة التي ما زالت تتملكني كلما رأيت راقص التانجو وهو يمر من الإنجليز. جزء من هذه الدهشة صنعه المعلقون وهم يتغزلون في هدف دييجو، أبرزهم بالطبع المعلق الأرجوياني “فيكتور هيوجو موراليس”، الذي صرخ وبكى وقال شعرًا وأهازيجًا كمن شرب برميلًا من النبيذ الأصلي المعتق.. يمكنك أن تسمع تعليق فيكتور في فيديوهات الهدف المنتشرة على موقع “يوتيوب” ، وتقرأ ترجمتها نصًا الأن: “ها هو ماردونا ينطلق بالكرة ويغازلها، يتخلص من لاعبيَن. مارادونا يركل الكرة، ينطلق عبقري الكرة العالمية من الجهة اليمنى.. يتخطى الثالث، سيمررها إلى بوروتشاجا.. لا هي دائمًا مع مارادونا! يا عبقري! يا عبقري! يا عبقري! تا تا تا تا… يا له من هدف! سامحوني، دعوني أبكي! يا إلهي! فلتعش كرة القدم! هدف من الروعة بمكان! مارادونا يركض في لقطة تاريخية، أفضل لقطة على مر العصور! يا أيها السمين الصغير، من أي كوكب أنت؟!”
كان مارادونا مبهرًا في هذه البطولة، لم يتمكن أحد من إيقافه، ولا حتى حرارة الشمس التي أحرقت مخزون الطاقة والمهارة في أقدام كل اللاعبين، تألق بدنيًا لدرجة أثارت دهشة أمه لتسأله: “ماذا تأكل يا دييجو في المكسيك؟ لم أرك في حياتي بهذا النشاط!”.
قابل مارادونا يد الله مرة ثانية ولكن في مونديال إيطاليا 90 وتحديدًا في مباراة الأرجنتين والاتحاد السوفيتي، يحكي مارادونا في مذكراته: “بعد هزيمة الكاميرون الأولى في مونديال 90 حانت مواجهة الاتحاد السوفيتي، لعبت أول مباراة في نابولي، في تلك المباراة ظهرت يد الرب مرة أخرى، لكنها هذه المرة منعت هدفا للسوفيت، كنت أقوم بالواجب الدفاعي وسدد أحد اللاعبين الروس ضربة رأس رائعة، وضعت يدي لمنع التعادل”.
ظل الحديث عن “يد الله” ومارادونا ممتدًا في كل المناسبات، لا ينافسه في الموروث الكروي المصري سوى هدف مجدي عبد الغني في هولندا طبعا، الفارق أن مارادونا لم يكسب عقود إعلانيه لشركات الجبنة النستو والتليفون المحمول مثل مجدي ولم يذل “شعب” الأرجنتين ليل نهار بقصة الهدف على طريقة صباع “الواد محروس بتاع الوزير”، ولكن أسطورة الأرجنتين أعاد للأذهان قصة الهدف عندما قال بعد انتخاب البابا فرانسيس عام 2013 كبابا للفاتيكان: “إن يد الله التي أحرزت هدفي في انجلترا هي التي أتت بالبابا الأرجنتيني على رأس الفاتيكان”.
ماردونا قابل يد الله كثيرًا، يحكي أنه سجل نفس الهدف بيده وهو يلعب لفريق سيبوييتوس، واشتكى لاعبو الفريق المنافس ولكن الحكم احتسبه ط، وفي مرة أخرى ألغى له الحكم هدفًا مشابهًا أمام فريق فيليز. نصحه يومها الحكم بألا يكررها، ولكنه رد ببساطة: “لا أعدك أنني سأتوقف عن ذلك” .
أما أنا فلن أتوقف عن حب ماردونا..